الرئيس قيس سعيّد يزاول السياسة بذهنية الزاهد والرومانسي الحالم

الرئيس قيس سعيّد يزاول السياسة بذهنية الزاهد والرومانسي الحالم


07/09/2020

رغم مرور أكثر من 9 أشهرٍ على توليه منصب رئاسة البلاد، لم يتخلّص الرئيس التونسي قيس سعيّد، من شخصية السياسي المتفرد والرومانسي المتمايز عن السياسي التقليدي، ولم يستطع الانتقال من العفوية إلى المهنية، كأنّه عاجزٌ عن إدراك الانتقال الحاصل في موقعه.

ما يزال الرئيس يردّد الشعارات الانتخابية نفسها التي عرضها على التونسيين أثناء حملته الانتخابية، بشكلٍ يوحي أنّه ما يزال بصدد محاولة إقناع الناخبين بتصوراته الذاتية لبنية نظام الحكم، أكثر من حرصه على تفعيل صلاحياته الدستورية كرئيسٍ لبلاد تتخبط في أزمات اقتصادية ومحن اجتماعية يومية، وسط فوضى سياسيةً تشلّ عمل الحكومة والبرلمان.

الرئيس المعارض

منذ توليه رئاسة البلاد، لم يقدم قيس سعيد خطاب رئيس دولة، بل ألقى خطاباتٍ ثوريةٍ غاضبةٍ، تحدث فيها عن التخطيط لمكائد، ومؤامراتٍ، وقمع، ومناوراتٍ، ثم رأى أنّ الدستور غير ملائمٍ عند حديثه عن الحركة السنوية للقضاة، وأقرّ بعدم استقلالية القضاء.

ما يزال الرئيس يردّد الشعارات الانتخابية نفسها التي عرضها على التونسيين أثناء حملته الانتخابية

ففي آخر خطابٍ توجه به سعيّد إلى التونسيين، خلال حفل أداء الحكومة الجديدة لليمين الدستورية، الأربعاء 2 أيلول (سبتمبر)، بدا كأنّه يعلن الحرب ضدّ الأحزاب والشخصيات السياسية، إذ فتح النار على أطرافٍ سياسيةٍ دون أن يسمّيها، متهماً إياها بالخيانة وحياكة المؤامرات والارتماء في "أحضان الصهيونية والاستعمار"، متوعداً بكشفها ومحاسبتها.

اقرأ أيضاً: قيس سعيد وإخوان تونس.. تصعيد ينذر بفتح ملفات "إرهاب النهضة"

وظهر الرئيس خلال الكلمة التي ألقاها وقد بدت عليه علامات التشنج، ليردّ على خطابات واتهامات وجهها له بعض النواب خلال جلسة منح الثقة لحكومة المشيشي، وقال سعيّد، في ردّه على حملة في مواقع التواصل الاجتماعي ضدّ أدائه خلال الأشهر الماضية: "ماذا فعلتم أنتم في الأيام الماضية، وفي الأشهر الماضية، باستثناء المشاورات بالليل وتحت جنح الظلام، وأنا أعلم ما قيل فيها وأعلم الصفقات التي تمّ إبرامها، وسيأتي اليوم الذي أتحدث فيه عن كلّ ما جرى".

وفي آذار الماضي (مارس)، خلال خطاب إعلان حظر التجوّل بسبب وباء كورونا، أدخل الذعر والريبة في صفوف التونسيين، تكاد تكون أشدّ إخافة حتى من فيروس كورونا في حدّ ذاته؛ إذ اعتمد فيه أسلوب الأمر والنهي، إذ قال إنّ "على الجميع البقاء في منازلهم، وعدم الخروج إلّا في حالة الضرورة القصوى"، وكرّر خلاله لغة الوعد والوعيد للمضاربين والمحتكرين.

الأكاديمي خالد عبيد لـ"حفريات": قيس  سعيّد يعيش نوعاً من العزلة الذاتية، التي تجعله يكرّر ما قاله خلال حملته الانتخابية، من خطابات مبهمة دون كللٍ أو مللٍ

سعيّد كشف أيضاً، خلال أول ظهور له على قناة "فرانس 24"، في حزيران (يونيو) الماضي، وجود مؤامرات تقودها قوى خارجية لإعادة تونس إلى الوراء، وذلك بالتعاون مع أطراف داخلية، مؤكداً امتلاكه لمعلومات حول هذه التدخلات، لكنه رفض الكشف عن أية تفاصيل.

وفي زيارته إلى المناطق الداخلية؛ ألقى الرئيس خطباً متشنّجة، متوجّهاً للمشاعر والغرائز البدائية، ومطلقاً تصريحات وعبارات تشي بالتحريض على الفوضى، وعلى النيل من الدولة، ومن مؤسساتها، فقد اتّهم في أول خطاب له بعد توليه الرئاسة بمحافظة سيدي بوزيد، يوم 17 كانون الثاني (يناير) الماضي، بمناسبة إحياء الثورة، مجهولين بإجهاض الثورة، في وقتٍ يحتاج فيه أهالي المحافظة المهمشة خطاب طمأنة.

وانتقد ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي، الذين رأوا أنّه لم يقدّم خطاب رئيس دولة، بل ألقى خطاباً ثورياً غاضباً، تحدّث فيه عن التخطيط لمكائد، ومؤامراتٍ في الغرف المظلمة، لكنّه لم يحدّد ما هي، مشدّداً على أنّه سيقوم بالتصدي لها "من أجل الشعب الذي حمّله مسؤولية ذلك".

 
بيان رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الشعب التونسي

بيان رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الشعب التونسي حول التدابير الاستثنائية لمنع تفشي فيروس كورونا

Posted by ‎Présidence Tunisie رئاسة الجمهورية التونسية‎ on Tuesday, March 17, 2020

وفي الخطاب الثاني له، بمناسبة ذكرى أحداث 4 آذار (مارس) الإرهابية، ببن قردان، كرّر الرئيس الشعارات نفسها المتعلقة بالديمقراطية المباشرة، وضرورة استعادة الشعب للسلطة، التي استعملها في حملته الانتخابية، ورفع شعارات من قبيل "إننا في حاجة إلى فكر جديد وإلى منظومة سياسية جديدة تكون ملائمة للعصر، وليست في قطيعة معه، ولم يقدّم، كعادته، أيّة تفاصيل حول الآلية التي سيتمّ من خلالها تفعيل هذه الشعارات".

هذه الخطابات رآها الباحث في علوم الإعلام والاتّصال، رضا الكزدغلي، تعبوية وأقرب منها إلى الشعبوية، من ممارسة مهام رئيس بلادٍ، وأشار، في تصريحه لـ "حفريات"، إلى أنّها تعود إلى فترة ما قبل الرئاسة، أي أنّ سعيّد لم يتجاوز بعد مرحلة التدرّب على إدارة الشأن العام، رغم مرور أكثر من 130 يوماً على ترأس البلاد.

اقرأ أيضاً: هذا أول تصريح لقيس سعيد بعد تمرير حكومته الثانية... ما علاقة النهضة؟

الكزدغلي يرى أيضاً؛ أنّ خطاب سعيّد ما يزال يتموقع في المعارضة، لأنّه لم يخرج بعد من جبّة المرشّح الرئاسي، الذي عمل على الفوز لأكثر من عامٍ قبل انطلاق الحملات الانتخابية، من أجل الوصول إلى المنصب الحالي، لافتاً إلى أنّه يمرّ حالياً بين مرحلتيْ الاستعداد والتبوء للموقع الجديد.

وحذّر الباحث في علوم الإعلام والاتّصال من أن تؤدي الرؤية السياسية غير الواضحة التي ينتهجها سعيّد حالياً إلى متاهةٍ سياسيةٍ، ودستوريةٍ، خاصةً أنّه ما فتئ يطالب بمراجعة النظام الدستوري والسياسي الحالي.

مدينة سعيّد الفاضلة

سعيّد، الذي كان فوزه بنسبة 72% في رئاسيات تونس مفاجأةً غير متوقعة، عُرف كرجل قانون ومثقف ومتواضع وزاهد وعبقري وعادل، وكسب ثقة الشباب، رغم أنّه لم يسبق له أن مارس السياسة، أو تقلّد مناصب رسمية في الدولة، اختار أسلوباً خاصاً به، أثار إعجاب فئةٍ واسعةٍ من الناخبين، التي كانت تبحث عن بديلٍ حقيقي للنخبة السياسية التي تولّت القرار السياسي منذ 2011.

اقرأ أيضاً: قطر تطرق باب قيس سعيد لحماية نفوذها في تونس

هذه الفئة من الشعب هللت بانتصاره، وتوقعت تحقيق معجزةٍ تونسية سيقودها الرئيس الجديد، غير أنّه لم يستفق بعد من حملته الانتخابية، ولم ينطلق فعلياً في ممارسة صلاحياته بقيادة البلاد والشعب، نحو المستقبل الذي وعد به.

واصل سيعيّد حياته، كأنّه لم يطرأ عليها جديد؛ إذ رفض في البداية الإقامة في قصر قرطاج (مقر الرئاسة)، كما جرت العادة، معتبراً أنّه فقط مقرّ عمل، وقرّر أن يعود يومياً إلى منزله الخاصّ في منطقة المنيهلة، بينما ترتفع الأصوات التي تطالبه بالعدول عن قراره والانتقال للإقامة في القصر، تجنباً لتعطل مصالح العباد والبلاد واستنزاف إمكانيات الدولة البشرية واللوجستية لتنفيذ رغبته.

وانتشرت مقاطع فيديو، أظهرت حالة الشلل المروري أثناء مرور موكب الرئيس، وشارك الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي تدوينات غاضبة، عبّروا فيها عن امتعاضهم من تعطلّ مصالحهم وتأخرهم عن أعمالهم.

كما يحرص سعيّد، إلى اليوم، على الحفاظ على عاداته القديمة، كأن يشرب قهوته ويدخن سيجارته في المقهى الشعبي نفسه الذي كان يرتاده قبل أن يصبح رئيساً، كما أنّه يحب أن يتردّد، بين حين وآخر، على الأحياء الشعبية الفقيرة ليتحدث إلى أهاليها بلغته المفخمة، و"عربيته" القحة، التي كانت عاملاً أساسياً في نجاحه، عن أوضاعهم البائسة.

رئيس الحركة الديمقراطية نجيب الشابي، انتقد سعيّد على خلفية خطاباته الموجّهة للشباب في عدد من مناطق البلاد، ورأى أنّها تتضمّن دعوةً لإقامة تنظيمٍ موازٍ للدولة

وخلال الأسابيع التي أعقبت دخوله إلى قصر قرطاج، ظلّ يستقبل بالأحضان شباباً عاطلين عن العمل، وعدداً من جرحى الثورة، وواصل تحريض الشباب الثائر على ضرورة استلام السلطة، واسترجع معهم بحماسة حملته الانتخابية كأنّه يقصّ عليهم "ملحمته التاريخية".

ويرى المؤرخ الجامعي المختص في التاريخ السياسي المعاصر، خالد عبيد، أنّ ما يقوم به سعيّد اليوم متوقّعٌ وغير مُستغرب، لافتاً إلى أنّ الرجل يعيش نوعاً من العزلة الذاتية، التي تجعله يكرّر نفس ما قاله خلال حملته الانتخابية، دون كللٍ أو مللٍ، والمدهش أنّه يرى أنّ هذا التكرار تأكيد على صواب ما انفكّ يلازمه.

وشدّد عبيد، في تصريحه لـ "حفريات"، على أنّ سعيّد سيواصل ترديد الشعارات نفسها حتى آخر عهدته، لافتاً إلى أنّه لن يستطيع فعل أكثر مما يفعله الآن، أي ترديد الشعارات الانتخابية، والخطابات المبهمة وغير المفهومة.

محلّ انتقادات

سعيّد الذي ركّز حملته الانتخابية على الدفاع عن لامركزية القرار السياسي وانتقاد طبقة سياسيةٍ حاكمة لم تنجح في إيجاد حلول للوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب في البلاد، منذ ثورة 2011، ولم يتخذ إلى اليوم أية إجراءات عملية في الغرض، بل واصل خطاباته التعبوية، وبلاغته في اللغة، وفصاحته المنمقة الفاقدة لكل مضمون، وهو ما جعله عرضةً لانتقاداتٍ واسعةٍ من الأوساط السياسية، والمدنية.

وكان رئيس الحركة الديمقراطية، نجيب الشابي، قد انتقد سعيّد على خلفية خطاباته الموجّهة للشباب في عدد من مناطق البلاد وآخرها في بن قردان، ورأى أنّها تتضمّن دعوةً لإقامة تنظيمٍ موازٍ للدولة والتحرّك خارج أطر الدولة.

وقال الشابي إنّه اُصيب بإحباطٍ بسبب طريقة تعاطي سعيّد مع أعضاء الحكومة، خلال إشرافه على أوّل اجتماع لمجلس الوزراء؛ حيث ظهر كأنّه أستاذ يقدّم درساً لطلبة السنة الأولى، وفق تعبيره.

من جانبه، ندّد أسامة الخليفي، النائب عن حزب قلب تونس العلماني، بما رآها خطابات مبهمة للرئيس يتعمد فيها قول ''الشعب يريد وأنتم تريدون''، وأوضح أنّ هذا الخطاب يتماشى مع الحملة الانتخابية، لكن بعد أن أصبح رئيساً يجب أن يكُفّ عن "استبلاه التونسيين" وفق تصريحه.

في المقابل؛ رأى المحلل السياسي، باسل ترجمان، في حديثه لـ "حفريات"، أنّ قيس سعيّد نموذجٌ غير تقليدي ومختلفٌ عمّا تعوّد عليه العقل، التونسي والعربي، إذ هو لم يغيٍّر أسلوبه الذي عرفه به التونسيون، حتى بعد أن أصبح رئيساً، مرجحاً أن يعدّل من خطاباته، وخططه الاتصالية بعد ستة أشهرٍ، على الأقل، من ممارسة مهامه".

وأشار ترجمان، في المقابل، إلى أنّ المجموعة الاتصالية التي يعتمد عليها سعيّد غير مؤهّلةٍ، لفهم آليات التواصل الحديثة، وتسببت في عدم وضوح صورة الرئيس للرأي العام التونسي، كما أنّها فشلت في تبليغ الرسالة المطلوبة منها للتونسيين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية