الرسائل المشفَّرة في خطاب البغدادي الأخير

داعش

الرسائل المشفَّرة في خطاب البغدادي الأخير


22/09/2019

رأت وسائل إعلام في الرسالة الصوتية الأخيرة لزعيم تنظيم داعش، أبو بكر البغدادي؛ أنّها تحتوي مضموناً دينياً، وتخلو من الرسائل السياسية، إلّا في بعض الفقرات التي تحدث فيه البغدادي عن إستراتيجية حرب الاستنزاف، التي بدأها التنظيم منذ بضعة أشهر، أو تلك التي تحدث فيها عن مبايعات في صفوف التنظيم، بحسب تقرير موقع "بي بي سي".

اقرأ أيضاً: أين سيُحاكم المعتقلون من تنظيم داعش في سوريا؟
بيد أنّ الرسالة التي جاءت بعد أنباء تحدّثت عن مرض شديد ألمّ بالرجل، حكى عنه أحد أقربائه أثناء التحقيق معه أمام جهات تحقيق عراقية، لم تكن تحمل مضموناً دينياً مجرداً، كما قرأ البعض من تسجيله الصوتي؛ بل وظّف هذا المفهوم سياسياً وتنظيمياً بدرجة عالية، وأشبع برسائل شملت العديد من المحاور وإن تخفّت بغطاء ديني.
فكّ العاني
كما أغفلت وسائل الإعلام تلك خطراً أمنياً، جاء في أواخر كلمات زعيم داعش، الذي دعا عناصر تنظيمه لاقتحام السجون، وإخراج عناصر جماعته بأيّة طريقة كانت؛ سواء بالهجوم المسلح، أو بدفع فدية في حال عدم استطاعتهم استخدام الحلّ الأول.

خطاب البغدادي لا يستخدم آيات النصر بل آيات التحفيز على التمسّك والاعتصام ويستحضر آيات الصبر والتغلب على نفسية الغربة

قد يرى بعضهم في تلك الدعوة أمنيات مستحيلة التحقق، إلا أنّ تاريخ التنظيم سجّل العديد من الوقائع التي استطاع فيها اقتحام العديد من السجون، وإخراج المئات من عناصره، حتى قبل تمدّده في العراق وسوريا، كانت أكبر تلك الوقائع اقتحام سجن أبو غريب، وإخراج المئات من المعتقلين فيه.
لم يحرّض البغدادي على اقتحام السجون فقط؛ بل على القيام بسلسلة من الاغتيالات التي تنال من القضاة والضباط والمحققين، ذوي الصلة بسجناء تنظيمه، ويستخدم البغدادي في دعوته لذلك لغة تخاطب وجدان الجهادويين وتلهب وجدانهم: "أما أشجى النوازل وأشدّها، فالسجون، السجون يا جنود الخلافة، إخوانكم وأخواتكم، جدّوا في استخراجهم، ودكّ الأسوار المكبلة لهم، فكّوا العاني، فهذا أمر ووصية نبيكم ﷺ، فلا تقصروا في فدائهم، إن عزّ عليكم كسر قيدهم بالقوة، وأقعدوا لجزاريهم من المحققين وقضاة التحقيق، كيف يطيب للمسلمين العيش ونساؤهم يرزحن في مخيمات الشتات، وسجون الذلّ تحت وطأة الصليبيين والرافضة الصوفيين والملاحدة والطواغيت المرتدين في شتى بقاع الأرض.."؟

 

مواجهة الحازميين
لكنّ الأهم في هذا الخطاب، وهو ما يمكن أن يطلق عليه "المراجعة الفكرية للتنظيم"، إن صحّ التعبير؛ فالتنظيم الذي رأى الجناح القوي فيه "الحازميون"؛ أنّ الدين قد اكتمل، ولم تعد هناك حاجة إلى دعوة الناس للدين من جديد، بل يجب القتال فقط لإجبارهم على الدخول فيه، أو قتلهم، يعود ليطرح فكرة الدعوة بالحسنى، بعد اعتبار عوام الناس يجهلون ما جاء به، ومن ثم فيجب توعيتهم، والترفق بهم.

اقرأ أيضاً: لمصلحة من عاد تنظيم داعش بقوة شرق سوريا؟
يدعو البغدادي إلى "دعوة عوام الناس، وأهل السنّة خاصة، والترفّق بهم، فليس بخافٍ عليكم الجهل المدقع الذي عصف بالأمة، واندراس العلم في كثير من أرجائها، فأنتج بعداً عن أصل دينها، وانتشاراً للشرك والبدع والخرافات، وما لم ينزل الله به من سلطان، حتى صوّر أحبار السوء والكثير ممن ينتسبون للإسلام، أنّه الدين الذي بعث به خير المرسلين، ويحسبون أنهم على شيء، ولا حول ولا قوة".
مثل هذا الخطاب غاب عن التنظيم منذ عقد من الزمان، واختفى تحت وطأة الأفكار التي تؤمن بأنّ عوام الناس لا يعذَرون بجهلهم، وبدأت المطالبة بدعوة أفراد التنظيم للتحدث مع الناس ودعوتهم بالحسنى، باعتبار أنّهم جاهلون لا كفّار، وهذا ما قد يشير إلى عزم التنظيم على انتهاج أساليب الدعوة السلمية، لتجنيد عناصر جديدة.
يحاول زعيم داعش تصحيح أخطاء قد وقع فيها تنظيمه

العودة للدعوة مع القتال
يكمل البغدادي هذه النقطة قائلاً: "أقيموا الحجة على الناس بدعوتهم للتوحيد الخالص، والتمسّك بكتاب ربّهم وسنّة نبيهم، بفهم سلف الأمة من القرون الأولى ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين" وهو الشقّ السلفي الخالص، وإن ربط البغدادي بينه وبين وجوب استمرار القتال بالتوازي "كتاب يهدي وسيف ينصر".
بل يذهب البغدادي في محاولة جذب التيارات الإسلامية إلى مشروعه، وتجديد الدعوة له، عبر إقناعهم بأنّ وسائل التغيير السلمية لن تجدي، فيقول: "يجب إرشادهم أنّه لا سبيل لخلع الطواغيت إلا بالطريق الذي أخبرنا به الله في كتابه، وهو الجهاد في سبيله، وما عدا ذلك فليس سوى أوهام وسراب، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً".

اقرأ أيضاً: الإرهاب في إقليم الساحل الإفريقي يخرج عن عباءة القاعدة وداعش
يتّجه خطاب البغدادي إلى التركيز على "الدعوة"، وأهمية جذب العناصر، والذي يأتي في الأهمية قبل القتال لا بعده: "وكما قال رسول الله لعلي: فوالله لو يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
بدا أنّ التنظيم بعد التراجع والخسارة، يتجه نحو تخفيف العنف، واكتساب الأنصار، فيدعو البغدادي إلى قبول التوبة: "قبول توبة من تاب، فاقبلوا توبة من جاء قبل القدرة عليه، ولا تتركوه حتى يتعلم أمر دينه، ويعلم لأيّ شيء نقاتل، وعلام أصبح هدفاً لأسيافنا، وما يجب عليه تجاه دينه من النصرة، وأمّته من الدعوة والإرشاد للمنهج الحقّ".
اعتراف مبطَّن بالخطأ
يحاول زعيم داعش تصحيح أخطاء قد وقع فيها تنظيمه؛ من ضمّ عناصر غير مؤدلجة، ومتشبعة بأفكار التنظيم، تخلّت عنه في النهاية عندما اشتدت وطأة المعارك، أو ذهبت للاستسلام لأعدائه دون قتال، أو سارعت لمبايعته عند تمكّنه، ثمّ ما لبثت أن نكست، فيأتي بعد ذلك هذا الخطاب ليضع ضوابط للتجنيد ومعايير لفرز العناصر.

تندرج خطابات البغدادي فيما يطلق عليه الإسلاميون "المحنة" وهو خطاب يسعى إلى التوافق مع الواقع ومنح الأمل

ويوجه البغدادي خطاباً لقادته ومسؤوليه، يشي بتبرمه من بعضهم، وكثرة الشكوى منهم، أو ربما لتجارب ماضية سلبية، فيدعوهم لــ "تقوى الله والظلم؛ يا عبادي إنّي حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، تعاملوا مع الناس بالعلم والحقّ والعدل والإنصاف، ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألّا تعدلوا..".
تندرج خطابات البغدادي فيما يطلق عليه الإسلاميون "المحنة"، وهو خطاب يسعى إلى التوافق مع الواقع، ومنح الأمل، والوعد بالنصر والتمكين، دون انتظار نتيجة آنيّة، ويوظف في ذلك الآيات القرآنية، التي تشحذ الهمم، وتنفح النفوس: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
في مثل هذه الخطابات لا تستخدم آيات النصر؛ بل آيات التحفيز على التمسّك والاعتصام، وتستحضر آيات الصبر، والتغلب على نفسية الغربة: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

اقرأ أيضاً: "أبقار داعش".. سلاح جديد للإرهابيين في العراق
ولا يستهان بمثل هذه الخطابات، في التأثير على وجدان الإسلاميين، فهي تضعهم في حالة قتال ضارٍ ومستمر، لا يوقفه العقل وحكمة الواقع؛ لذا فإنّ البغدادي يركز على عدم أهمية المكاسب، بل على مواصلة القتال، دون انتظار الغنائم في الدنيا: "النصر والتمكين وعلو الدين في الدنيا لم يكلفنا الله بشهوده، ولم يجعله شرطاً لازماً لقبول العمل، ولا دليلاً على الصحة والفساد، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة".
في ضوء ذلك، ليس معنى الهزيمة أنّ التنظيم كان مخطئاً؛ فالنصر ليس معياراً للخطأ والصواب، وهو ما يغلق باب المراجعة الجدية "فالنتائج بيده سبحانه، إن شاء منع وإن شاء أعطى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية