السند المتين في استثمار الدين.. قراءة في لائحة عبد الحكيم عابدين

السند المتين في استثمار الدين.. قراءة في لائحة عبد الحكيم عابدين

السند المتين في استثمار الدين.. قراءة في لائحة عبد الحكيم عابدين


02/08/2023

اعلم، عافاك الله، أنّ الاستفادة من موهبة أُعطيتَ إيّاها، أو التكسّب من معرفة منّ الله عليك بها، هو أمر ليس بالهيّن على عموم الناس، وإنّما له أصحابه الذين يتقنونه، فكم من موهبة فقدت طريقها بسبب تكاسل صاحبها! وكم من معرفة أهدرت بسبب التقاعس عن استثمارها!

عرضنا، في مقال سابق، نموذجاً مبكراً لاستخدام رأس المال الديني، وكان ذلك في مجتمع شبه الجزيرة، في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري. مجتمع لم يكن قد عرف بعدُ المفهوم العلمي لرأس المال، مجتمع رعوي تجاري قبل رأسمالي. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، بدأ النفوذ الديني أولى خطواته لتكوين الثروة، أو الحفاظ عليها وتحصينها.

واليوم، نتحدّث عن توظيف الدين، كمورد يدرّ دخلاً هائلاً على صاحبه، نظراً لكثرة زبائن هذا النوع من التجارة، وطيبة قلوبهم، وتعلقهم الشديد بخالقهم، وفي رجائهم عفوه وغفرانه، يبذلون الغالي والنفيس في سبيل ذلك، ولا يبخلون بمال على من أخذ بيدهم إلى طريق الله، حسبما أوهمهم هذا المستثمر الفذ. ولكي نفهم كيف يتمّ توظيف الدين كمورد استثماري، علينا أن نبدأ من البداية؛ من أوّل جماعة اتخذت الإسلام مسرحاً لتحقيق طموحاتها السياسية والاقتصادية في مصر الحديثة، والمقصود هنا جماعة الإخوان المسلمين. ولقد سمّينا المقال بـ"السند المتين" لأنّ الإخوان بهذه اللائحة المالية قاموا بأوّل وأكبر عملية خداع وتدليس باسم الإسلام، فكان لهم قصب السبق والريادة في ذلك، ومن ثمّ مثلت اللائحة المالية، التي صاغها سكرتير عام الجماعة، عام 1936، سنداً متيناً، ومرجعاً ثميناً، لكلّ ما جاء بعد ذلك من استثمار للدين.

ففي هذه اللحظة التاريخية، تحديداً، اعتدل عبد الحكيم عابدين، صهر حسن البنا، وسكرتير عام جماعة الإخوان المسلمين، على مقعده، وراح يعدّل طربوشه بأناة، ويمشط لحيته الخفيفة بأصابعه، وبصوت يملؤه الإيمان حلاوة، والتشوّق إلى المال طلاوة، يقرأ لأخ زوجته، المرشد العام للجماعة، اللائحة المالية لجماعة الإخوان، والتي سينشرها في العدد العاشر من مجلة النذير.

سينبري لي أحد أعداء الإخوان الموتورين، ليهتف في وجهي: أليس هذا الـ"عبد الحكيم" هو ذاته "عابدين"، الذي استباح حرمة نساء الإخوان أثناء غياب أزواجهنّ في ظلمات السجون؟ أردّ عليه: خسئت يا رجل! وحتى لو حدث، فهذا ليس مجاله، فنحن نتحدّث الآن عن اقتصاد الإخوان المسلمين لا أخلاقهم، فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى، والرجل كان اقتصادياً لا يشقّ له غبار، فلا يعيبه انحطاط أخلاقه في شيء.

وفي العدد العاشر من مجلة النذير التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، صدرت هذه اللائحة الميمونة التي أعدّها عبد الحكيم عابدين، تحت عنوان: "واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه"، حيث تقول ديباجة اللائحة: "على هذه الأركان يجب أن نبني السياسة المالية للإخوان، وبهذا الميزان يجب أن نحدّد درجات الإيمان". وتنشر المجلة مع اللائحة تنويهاً خاصّاً بقلم حسن البنا يقول فيه: "إلى الميدان أيّها الإخوان، هذه هي موارد الإخوان المسلمين، من نقودكم، ومن أقواتكم، ومن ذات يدكم. وينهي البنا تنويهه بالإشارة إلى أنّ التقرير قد تمّ عرضه على مكتب الإرشاد، "فقرّر وجوب المساهمة وتحديدها أوّلاً بالعشر، ثمّ الخمس في المستقبل، والجميع بعد ذلك".

 ورد في اللائحة أيضاً أنّ النظام المالي الحاضر للجمعية يعتمد على جمع الاشتراكات؛ حيث يُعيَّن سهم ثابت في دخل كلّ واحد من الإخوان ويُسمّى سهم الدعوة، "مع وجوب إخراج هذا السهم بانتظام تام، سواء كان هذا الدخل سنوياً أو شهرياً. ويُعيّن لخراج هذه الأسهم مجلس خاص، يشرف على جبايته، وحسن استغلاله لمطالب الدعوة المهمّة ومشروعاتها الجليلة".

دعونا نقف أمام عبارتين دالّتين في هذا الخطاب، هما: عبارة "ما غنمتم من شيء"، وعبارة "نحدّد درجات الإيمان"، فالاثنتان تنتظمان على نحو دلالي في خطاب يستدعي التراث الإسلامي، وتمثلان أسلوباً لغوياً للبرهنة على صدق الخطاب في ذهن متلقيه؛ حيث تحيلان إلى لغة دينية، وتاريخية، توفر المصداقية، وتحقق الإقناع.

 فخالد الذكر عبد الحكيم عابدين يورد عبارة "ما غنمتم من شيء"، مستخدماً مصطلح: "غنائم"، للإشارة إلى مداخيل ورواتب أعضاء الجماعة وأنصارها، فيبرهن على انتساب هذا النظام المالي إلى الدولة الإسلامية الأولى، في فتوحاتها، وغزواتها، ومن هنا تكتسب اللائحة مصداقية دينية وتاريخية، ترفعها إلى مرتبة الشروط الإيمانية.

أمّا عبارة: "تحدّد درجات الإيمان"، فتفيد أنّ درجة الإيمان تُقاس هنا بكمّ المال، الذي يدفعه عضو الجماعة، أو المتعاطف معها، فما أهون التضحية المالية أمام تبوُّؤ درجة إيمانية مرتفعة! وتذكّرنا هذه الحالة الإخوانية بنوع مشابه من استثمار الدين في القرن العاشر الميلادي، على يد الكنيسة الكاثوليكية، حين أصدرت صكوكاً تمنح بموجبها غفراناً شاملاً لكلّ من يشارك في الحروب الصليبية، ثمّ تحوّلت بعد ذلك إلى وسيلة إلهيّة لجمع المال، حتى وصل الأمر إلى ظهور سوق سوداء، تُباع فيها تلك الصكوك بأضعاف ثمنها الذي حدّدته الكنيسة. وفي الحالتين، الإخوانية، والكنسية الكاثوليكية، يتمكّن المواطن من شراء درجة الإيمان في الحالة الأولى، والغفران من الذنوب في الحالة الثانية، وكلتاهما تهون أمامها الأموال والثروات.

بهذه الأسهم تمكّنت جماعة الإخوان من مراكمة ثروات هائلة؛ فعلى خلاف كافة الجماعات والأحزاب السياسية والوطنية في النصف الأول من القرن العشرين، بدأ تنظيم الإخوان المسلمين في تأسيس بنية مالية واقتصادية خاصّة به. وحسب ما أعلنه التنظيم نفسه في أكثر من موضع في مطبوعاته ومنشوراته، تمكّنت الجماعة من تأسيس مشروعاتها الاقتصادية والمالية، منها: (الشركة العربية للمناجم والمحاجر) و(شركة المعاملات الإسلامية) المتّحدتان، والعديد من الشركات العاملة في التجارة، هذا بالإضافة إلى شركة الإعلانات العربية وشركتي الإخوان للصحافة والطباعة، التي قامت بإصدار "جريدة الإخوان المسلمين كجريدة إسلامية يومية، وأيضاً شركة الإخوان للغزل والنسيج، وغيرها.

لقد وضع الإخوان المسلمون حجر الأساس في بناء صرح الاستثمار الديني الهائل، وما أتى بعد ذلك من مشروعات واستثمارات حملت لافتة الإسلام إنّما تدين، في بدايتها، للسند المتين، المتمثل في لائحة عبد الحكيم عابدين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية