السودان يغلق صفحة الإسلاميين بقانون للتفكيك وإنهاء التمكين

السودان يغلق صفحة الإسلاميين بقانون للتفكيك وإنهاء التمكين


30/11/2019

محمد أبوالفضل

ثمّنت جهات متباينة كل الخطوات التي اتخذتها الخرطوم لتقليص دور رموز نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير، منذ تولي السلطة الحالية قيادة المرحلة الانتقالية في أغسطس الماضي، لكن تمت المطالبة بتحركات أكبر تستهدف حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا مباشرة، وتنهي دوره في الحياة الحزبية.

لم تجد شريحة كبيرة من السودانيين استجابة فورية من مجلس السيادة أو الحكومة بالإقدام على هذه الخطوة مبكرا، ما أوجد انطباعات تشير إلى عدم الرغبة في، وربما عدم القدرة على، طي الصفحة الإسلامية نهائيا، وبدا كأن هناك ممانعة من قبلهما في حسم الموقف تماما.

تفاعلت في الأيام الماضية قوى الحرية والتغيير مع مطلب العزل السياسي للمؤتمر الوطني، والأحزاب التي تدور في فلكه، وطالبت باتخاذ موقف أشد حسما، عقب تزايد اللغط الذي أثارته بعض القيادات الإسلامية وفهم الإجراءات اللينة في مواجهة الضغوط المتتالية على أنها ردة في مسيرة الحراك الثوري الذي انطلق للتخلص من البشير وأعوانه وكل ذيولهم في السلطة والمجتمع.

إزداد الأمر سوءا مع تصاعد النبرة التي بدأ يتحدث بها إبراهيم غندور، الرئيس الجديد لحزب المؤتمر الوطني، وتقديم مقاربات تنتهك المجال السياسي العام، وتشويه صورة قوى الحرية والتغيير، والتشكيك في نوايا تجمع المهنيين، بل والمطالبة بحكومة تكنوقراط للتخلص من الوزراء الذين جرى اختيارهم في حكومة عبدالله حمدوك.

ضاعفت كل هذه التصورات من احتمال استفادة عناصر النظام السابق من الارتباك الذي ضرب بعض الملفات السياسية والأمنية، وانعكس سلبا على مطلب السلام الشامل في البلاد، خاصة بعد سخونة الأحداث في شرق السودان.

وأشارت اتهامات كثيرة إلى وجود أصابع خفية لأشخاص ينتمون لحزب المؤتمر الوطني، لعبت دورا في تغذية الخلافات القبلية في منطقة بورتسودان في الشرق، ووجود بصمات لقيادات إسلامية سودانية وإريترية هناك، كما بدأت تتبلور ملامح علاقة بين هؤلاء وكل من قطر وتركيا، الأمر الذي استوجب زيارة عاجلة لأسمرة قام بها حمدوك للتنسيق مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.

وكان من الضروري أن ترسل السلطة الانتقالية في السودان رسائل قوية في ملف النظام القديم لمن يهمهم الأمر في الداخل والخارج، عبر قناة المؤتمر الوطني، وتنهي حالة التململ، وربما السخط عليها، والاتهامات التي أخذت تتواتر حول وجود تواطؤ ما بين النظام الحالي في الخرطوم وعناصر النظام القديم، حملت إشارات خاطئة، استفادت منها بعض رموز البشير في التجرؤ على الحكومة، للإيحاء بأنها متخاذلة وضد إرادة الشعب، ولن تقدم على إجراءات تغلق الصفحة الماضية.

لذلك أصدرت السلطات الانتقاليّة قانوناً يساعد على فك الروابط التحتية داخل نظام البشير، نصّ على حلّ حزب المؤتمر الوطني، وانقضاء شخصيته الاعتبارية، ومصادرة أمواله ومنع رموزه من ممارسة العمل السياسي لعشر سنوات على الأقل.

ونص القانون، الذي صدر بعد مشاورات واجتماعات بين مجلس السيادة والحكومة، على تشكيل لجنة من مهامها منع السيطرة على مفاصل الدولة، من خلال إعادة النظر في التعيينات التي تمّت في عهد البشير في إدارات عامة أو خاصة ولم تستند إلى معيار الكفاءة، وكان دافعها الولاء الحزبي أو السياسي أو القرابة العائلية.

وجرى إلغاء قانون “النظام العام” المثير للجدل وتم تطبيقه منذ عام 1996، ومثّل إذلالا وانتهاكاً لحقوق المرأة والحجر على كثير من تصرفاتها، واستخدم كسلاح ضدها في مواقف عديدة، وتسبب في تقييد الحريات العامة والفردية، وتضمن غرامات مالية وعقوبات مثل الجلد والسجن لفترات تصل لخمسة أعوام.

أفضت هذه الخطوات إلى إشاعة أجواء من الارتياح لدى قوى الحرية والتغيير، وفرملة التوجهات السياسية الرامية إلى استعادة نفوذ المؤتمر الوطني، وأكدت للمواطنين عدم الردّة عن المنجزات التي حققتها الثورة، وأن السلطة الانتقالية عازمة على اجتثاث هياكل النظام القديمة، ومحاكمة ومعاقبة كل قوالبه ورموزه التي شاركت في تخريب الحياة السياسية، ولا صحة لأي مرونة أو توافقات من قبل السلطة الانتقالية معهم.

طمأن هذا التحرك فئة كبيرة من السودانيين، انتابتها مخاوف من خسارة المكاسب التي حققها عزل البشير، وأنهى الجدل الدائر بشأن الدور السلبي الذي تقوم به الدولة العميقة في البلاد لمنع التقدم للأمام، والأهم أنه يعزز الثقة في الحكومة التي بدت مكبلة بين تركة خطيرة، وبين طموحات لا تستطيع تحقيقها خلال فترة وجيزة.

تعقدت الأمور مع عدم شعور المواطنين بتحسن حقيقي على مستوى الحلبة السياسية والحياة الاقتصادية، ناهيك عن التطورات الأمنية القاتمة التي وقعت في جبال النوبة في الجنوب، والاشتباكات القبلية في الشرق، وفوق هذا وذاك تعثر الوصول إلى السلام، وأصبح قرار وقف العدائيات في مناطق النزاعات مهددا بعدم تطبيقه على الأرض.

في هذه البيئة، لم تفلح الحكومة في توسيع نطاق روابط علاقاتها الخارجية بما يؤدي إلى تغيير وجه السودان فعلا. ففي ظل تراكم العثرات أصبحت مؤسسات الدولة مكبلة، ولم تستطع التقدم إلى الأمام بخطوات واسعة، توحي بأنها تسير على الطريق السليم.

واتخذ ملف الموقف من فلول نظام البشير ذريعة للتدليل على تقاعس تجاوزت رسائله الساحة الداخلية، فالدول التي وعدت بتقديم مساعدات سخية للسودان تمهلت قليلا حتى تتبين الخيط الأبيض من الأسود في أداء الحكومة حيال النظام القديم، بكل ما يحمله من معاني لها تداعيات مباشرة على الموقف من المتطرفين وقضايا الإرهاب.

منحت السلطة الانتقالية مصداقية أعلى لهذه الشكوك عندما أظهرت انفتاحا على كل من قطر وتركيا. وزاد ظهور الفريق أول عبدالفتاح البرهان على قناة الجزيرة في حوار شامل معها الخميس 21 نوفمبر، الهواجس من تذبذب توجهات بلاده ولأي معسكر تميل، لأن الرجل بعث من خلال اللقاء برسائل سلبية لدول على خلاف مع الدوحة. وكان الموقف من أنقرة شبيها، حيث توالت اللقاءات الرسمية لوزراء ومسؤولين في البلدين، بما اعتبر على أنه تمسك من الخرطوم بالحلفاء القدامى، حلفاء البشير.

مرجح أن توقف خطوة العزل السياسي، وما تضمنه القرار الأخير من بنود مهمة، جانبا من الضغوط التي مورست على السلطة الانتقالية وما صاحبها من توقعات بردّة سياسية، وأنهت ما يمكن وصفه بـ”التقية” داخل المؤسسة العسكرية، لأن القرار الأخير سوف تترتب عليه إجراءات قد لا يستطيع كثيرون مقاومتها ومعارضتها في الشارع.

ليس صدفة أن يأتي التوجه نحو تفكيك رموز النظام القديم قبل يومين من زيارة يبدأها رئيس الحكومة السودانية لواشنطن، يجري فيها محادثات مع مسؤولين في الولايات المتحدة حول رفع اسم السودان من على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.

وقد رشحت ملعومات ذهبت إلى صعوبة الحصول على وعد قاطع ينهي هذه القضية الشائكة خلال فترة قصيرة، خاصة أن الخرطوم لم تتخذ الإجراءات الكافية ضد رموز النظام القديم، وبدت متهاونة في مكافحة القوى الظلامية والإرهابية، ومحاكمة البشير.

قدم حمدوك عربونا للولايات المتحدة قبل أن تطأ قدماه واشنطن، ليحثها على مساعدته، ويقنع المؤسسات وجماعات الضغط المختلفة بأن السودان يسير على الدرب الإيجابي، وحكومته المدنية عازمة لتصبح متّسقة مع أهداف الثورة، وتحافظ على ثقة القوى الإقليمية والدولية التي باركتها، أملا في رفع ما تبقى من عقوبات اقتصادية، وجلب مساعدات واستثمارات لنهضة السودان.

في كل الأحوال، ليس من المتوقع أن تستسلم قيادة المؤتمر الوطني، وينتهي دور الحركة الإسلامية في السودان. فقرار العزل قد يواجه بممارسات عنيفة على الأرض، وغير مستبعد أن تظهر على السطح الخلايا النائمة التي اعتقدت أنها يمكن أن تستعيد دورها مع استمرار السيولة.

وبعد الدخول في مرحلة عملية جديدة ودقيقة، سيتم اللجوء إلى مزيد من إرباك المشهد في السودان، كوسيلة للهروب من تنفيذ استحقاقات إنهاء التمكين. وتتوقف معركة كسر العظام على مدى صرامة التعامل من قبل الأجهزة الرسمية، وحدود استسلام أو عنف روافد النظام القديم، ومساندة القوى الإقليمية والدولية للحكومة السودانية.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية