السيادة حسب الوصفة اللبنانية

السيادة حسب الوصفة اللبنانية


07/11/2021

إبراهيم الجنين

يصعب أن توقظ اللبناني على حقيقة أن جمهوريته الحالية كيان بني أساساً على فكرة تناقض معنى السيادة. قليلون يعرفون هذا يقودهم التشاؤم التاريخي، الغالبية لا تقبل حتى مجرّد التفكير في الأمر، فهذا سيعني مراجعة كاملة وشاملة لكل المفاهيم التي تأسّس عليها ما يعتبر اللبنانيون مآله اليوم باطلاً.

الدولة الطائفية، الكيان الديني والعزل الاجتماعي القائم على خطوط المذهب. هذه كانت من مفردات تشكّل الدولة اللبنانية منذ “لبنان الكبير”.

انظر كيف؛ قبل شهرين من هذه اللحظة مرّت ذكرى تأسيس ما عرف باسم “دولة لبنان الكبير” على أنقاض متصرفية جبل لبنان، وعلى يد جنرال لم يكن لبنانياً مثل الرئيس ميشال عون، بل كان الجنرال غورو ذاته، قائد الغزو الفرنسي لبلاد الشام وصاحب القصة الشهيرة مع ضريح صلاح الدين الأيوبي “ها قد عُدنا يا صلاح الدين”.

وأولئك الذين عادوا، بذهنية فتح صليبي، فقط أعلنوا “دولة” من جانب واحد. ووجدوا من يهلّل لهم ويوافق على قرارهم، بل ويقرّه في صلب الدستور في الثالث والعشرين من مايو 1926 محوّلاً إياه إلى جمهورية، جمهورية تأسست بقرار ضابط في الجيش الفرنسي.

قبل ذلك كانت متصرفية جبل لبنان حياً من أحياء سوريا، بيروت ميناء دمشق وحمص عمق طرابلس وهكذا. ولكن منذ أن أن تم ترفيع رتبة قرار غورو وجعله جمهورية والعواصف لا تهدأ داخل علبة كبريت حشرت فيها أكثر من 18 ديناً وطائفة وإثنية. ولم يسأل أحدٌ عن السيادة ومعناها آنذاك، فسيادة الجنرال كافية وزيادة.

لم يغادر وعي اللبنانيين ذلك المبدأ، حتى أنهم يعتقدون أن المنقذ دوماً يجب أن يكون عسكريا، وربما كان وصولهم إلى خيارات الحرب الأهلية وإقناع الآخر بقوة السلاح بالعيش المشترك برهاناً ساطعاً على انعدام أي وسيلة ممكنة أخرى.

ولعله فراغ جعبة لديهم، ذاك الذي قادهم أكثر من مرة إلى سيادة تجلبها “الموثوقية”، تلك البدعة الاجتماعية فوق الدستورية التي فتحت الباب واسعاً أمام هدم الدولة وتسليمها لاحقاً للثنائي الشيعي الذي يقود أحد ركنيه عرّاب الموثوقية ومروّجها الأكبر نبيه بري زعيم حركة أمل والذي أوصله اتفاق الطائف إلى منصب رئيس مجلس النواب.

ماذا تعني السيادة عبر الموثوقية؟ تعني أن كل شيء ممكن إذا تم التوافق عليه بكلمة الشرف، حتى لو كان مخالفاً للقانون. هكذا مرّر بقاء حزب الله مسلحاً بعد نزع سلاح أمراء الحرب وملوك الطوائف، وهكذا مرّر انتقال حزب الله من حركة مقاومة إلى ميليشيا عابرة للحدود ذات دور إقليمي يشتكي وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب من أن السيطرة عليه خارج قدرة الحكومة اللبنانية، مناشداً العرب ألا يحملوا تلك الحكومة أكثر مما تستطيع.

وفي الوقت ذاته يتحدث بعض اللبنانيين عن أن الاعتراض السعودي على تصريحات جورج قرداحي وزير الإعلام المسيّس، وبعده بوحبيب ذاته وزير الخارجية المسيّس، تمسّ سيادة لبنان. أين هي الموثوقية وأين هي السيادة في معادلات الساسة اللبنانيين اليوم؟ فقاعات لا قيمة لها.

ما معنى السيادة اللبنانية في ظل تسيّد حرفي مثير للسخرية لرجل دين يتبع مرجعاً يعيش على بعد آلاف الكيلومترات على مسار لبنان ولقمة عيش الملايين من المواطنين فيه؟ ما معنى السيادة في إطلاق يد هذا “السيّد” في رعاية تجارة المخدرات والقبول بمكانته المذهبية في الوقت ذاته؟

ما معنى السيادة في التأقلم مع احتقار هذا “السيّد” لقرارات المحكمة الدولية وحماية قتلة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري؟ ما معنى السيادة في السماح لهذا “السيّد” الذي بات هو الآخر جنرالاً بعمامة لا ببزة عسكرية، باختراق الحدود وارتكاب المجازر بحق السوريين الأبرياء واحتلال مدنهم وقراهم وتهجير النساء والأطفال وتطبيق برنامج تغيير ديموغرافي ممنهج يشوّه وجه سوريا؟

قبل أكثر من عام ونصف العام، وفي ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية اللبنانية، رفض حزب الله تدخل صندوق النقد الدولي حفاظاً على “السيادة”، كما رفض وزير الصحة اللبناني الذي كان حينها يتبع حزب الله، للمصادفة الساخرة، وفي ذروة انتشار وباء كوفيد – 19 إيقاف الرحلات الجوية ما بين طهران وبيروت، كما طلبت منظمة الصحة العالمية، خشية انتقال العدوى، وقال وزير حزب الله حينها أيضاً إن ذلك يعتبر تدخلاً في “السيادة” اللبنانية، ما فاقم الأوضاع المرضية في لبنان حدّ انهيار النظام الصحي كله، بينما لم تكن ناقلات مازوت إيران التي استقدمها “السيّد” رغماً عن العقوبات الدولية المفروضة على إيران ازدراء للسيادة.

ملّ العالم العربي من تحمّل الوصفة اللبنانية للسيادة بصيغتها الحالية، والهجوم اليومي على العرب، حتى أن النائب محمد رعد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة أي لحزب الله، لم يخجل من القول “هل استفقنا على عروبتنا؟”، وكأنهم كانوا في طمأنينة إلى أن عروبة لبنان وشعبه باتت في حكم الميتة.

غير أن أبلغ الردود التي قيلت له ذاك الذي كتبه النائب فارس سعيد والذي قال لرعد “ترجمنا للعرب من الإغريقي واللاتيني وأسّسنا أوّل مكتبة عربيّة وناضلنا للعروبة في وجه التتريك، وها نحن نحمل أمانة العروبة ضد التفريس. أنتم تعيشون في الماضي وتحقدون. نحن بالعكس أبناء رجاء”.

يعتقد حزب الله أنه بتبعيته الولائية للمرشد الإيراني، والتي هي أبعد ما تكون عن السيادة وحرية الاختيار، وبشحنات الكبتاغون التي يريد إغراق الخليج العربي بها، وبما يرتكبه من جرائم في سوريا واليمن، إنما يستطيع مواصلة خداع جماهير عربية تعيش في القبور، ربما لأن العقل الذي يدير الحزب والمشروع الإيراني كلّه هو عقل قبوري لا يمكنه أن يرى الآخر إلا في مناخ مشابه. إلا أن هذا واحد من أكبر أخطاء حزب الله، إيران لن تخسر، فهي في البعيد، بينما شريحة لا بأس بها من اللبنانيين سيجدون أنفسهم ذات يوم معلّقين في الطائرات الإيرانية التي تفرّ من لبنان، يتساقطون مها كما تساقط الأفغان من الطائرات الأميركية.

ومن ظلام إلى ظلام، ومن جديد، لا يجد اللبنانيون من مخرج أفضل من البحث عن سيادة مستوردة يحدثها انقلاب عسكري، أو تدخّل فرنسي أو معجزة يجترحها البطريريك الماروني في بكركي. البطريرك ذاته الذي يخلط الأمور ببعضها بعضاً بين الأسبوع والآخر، فيطالب بطرد اللاجئين السوريين “السنّة” ملوحاً بحرب دينية، متماهياً مع خطاب جبران باسيل المصطبغ بالطائفية، وفي أيام أخرى تميله الريح نحو سمير جعجع رافضاً النيل من مكانة الموارنة، قبل أن ينثني نحو سليمان فرنجية ويحتضن قرداحي حامياً موقفه حتى النهاية.

متصرفية بفرمان تركي صارت دولة بفرمان آخر فرنسي، من الصعب أن تستمر من دون فرمانات أجنبية جديدة، إيرانية أو سعودية أو غيرها، إلا إذا تخلّصت من عللها الطائفية وأعادت تركيب ذاتها، وطناً نهائياً لمواطنين متساويي الحقوق، لا متحاصصين على جثّة تكاد تكون هامدة هذه الأيام.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية