السُّنن الإلهية لا تحابي ولا تستثني أحداً

السُّنن الإلهية لا تحابي ولا تستثني أحداً


13/03/2022

"سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" )سورة الأحزاب 62(.

"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (سورة السجدة 13).

نستمدّ معرفتنا بالقانون الإلهي من فهمنا للطبيعة والكون، ولذلك فإنّه قانون يشمل جميع الناس والكائنات، ولا يحابي أهل دين، ولا يستثني أحداً، ويجيب سبينوزا عن أسئلة، ويضيء قضايا في هذا المجال تصلح لجميع المؤمنين بالله من كلّ دين، ذلك أنّها قضايا يجري الجدل حولها بين أتباع جميع الأديان السماوية، وهي قضية واحدة لا فرق فيها بين دين وآخر.

نستمدّ معرفتنا بالقانون الإلهي من فهمنا للطبيعة والكون ولذلك فإنّه قانون يشمل جميع الناس والكائنات

يُعرّف سبينوزا (رسالة في اللاهوت والسياسة) القانون بأنّه كلّ حالة يخضع فيها الأفراد منظوراً إليهم كلّ فرد على حِدة؛ سواء أكان الأمر مُتعلقاً بمجموع الموجودات أو ببعض الموجودات المُنتمية إلى النوع نفسه، لقاعدة سلوك واحدة مُحدَّدة. ويتوقَّف القانون إمّا على ضرورة طبيعية، وإمّا على قرار إنساني، فالقانون يكون مُعتمِداً على ضرورة طبيعية عندما يصدُر بالضرورة من طبيعة الشيء ذاتها أو من تعريفه، ويكون مُعتمِداً على القرار الإنساني ـ ويُسمَّى عندئذٍ بالأحرى قاعدة تشريعية ـ عندما يفرِضُه البشر على أنفسهم وعلى الآخرين، ليجعلوا الحياة أكثر أمناً وأكثر يُسراً، أو لأسباب أخرى. وعلى نحو عملي فإنّ القانون هو قاعدة للحياة يفرِضُها الإنسان على نفسه أو على الآخرين من أجل غاية.

اقرأ أيضاً: الدين والعقل.. أيهما يجب أن يخضع للآخر؟

وأمّا القانون الإلهي، فإنّه، كما يقول سبينوزا، يتلخَّص كله في قضية واحدة: هي حبُّ الله باعتباره خيراً أقصى. فإذا نظرنا الآن إلى طبيعة القانون الإلهي، فإنَّنا نلحظ أنّه:

1-  شامل؛ أي إنّه يَعمُّ الناس جميعاً؛ لأنَّنا قد استنبطناه من الطبيعة الإنسانية منظوراً إليها في طابعها الكُلي الشامل.

2-  لا يتطلَّب أن نُصدِّق بروايات تاريخية، أيّاً كان مضمونها، ذلك لأنَّهُ (القانون الإلهي الطبيعي) يُعرَف عن طريق تأمُّل الطبيعة البشرية وحدَها.

 

اقرأ أيضاً: في التفسير العقلاني للنبوة والمعجزات

3-   إنَّ هذا القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلَّب أفعالاً يتعدَّى تبريرُها حُدود الفَهْم الإنساني. والواقع أنَّ النور الفطري لا يتطلَّب شيئاً لا يبلغه هذا النور نفسه، وكلّ ما يحتاج إليه هو ما يُمكنه أن يُعرِّفنا إيَّاه بوضوح تامٍّ بوصفه خيراً؛ أي بوصفه وسيلةً نحصُل بها على سعادتنا.

4-  أعظم جزاءٍ يُعطيه القانون الإلهي هو معرفة هذا القانون نفسه؛ أي معرفة الله وحبّه، باعتبارنا موجودات حرَّة حقاً، تتمتَّع بنفسٍ صافية وثابتة، على حين أنَّ العقاب إنّما يكون في حِرماننا من هذه الخيرات، ووقوعنا في عبودية الجسد؛ أي تكون أنفسنا مُتغيِّرة مُتقلِّبة.

القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلَّب أفعالاً يتعدَّى تبريرُها حُدود الفَهْم الإنساني

يتساءل سبينوزا: هل نستطيع بالنور الفطري تصوُّر الله كمُشرِّعٍ أو كأميرٍ يسنُّ القوانين للبشر؟ ماذا يقول الكتاب المُقدَّس بشأن هذا النور وهذا القانون الطبيعي؟ ما الغاية التي استُهدِفت فيما مضى من فرْض الشعائر الدينية؟ ما الفائدة من معرفة الروايات المُقدَّسة والتصديق بها؟

ويجيب: إنّ القانون الإلهي الذي يُعطي الناس السعادة الحقَّة، ويعلمهم الحياة الحقيقية، مُشترَك بين الناس جميعاً، بل إنَّنا استنبطناه من الطبيعة الإنسانية، بحيث يجِب علينا أن نعتبِرَه فطريّاً في النفس الإنسانية، وكأنّه مَسطور فيها. إنّ المسيح، كما يقول سبينوزا، لم يُبعث للمحافظة على الدولة ولتشريع القوانين، بل لتعليم القانون الشامل وحدَه. من ذلك نُدرك بسهولة (يقول سبينوزا) أنَّ المسيح لم ينسخ شريعة موسى مُطلقاً؛ لأنَّهُ لم يشأ وضع قوانين جديدة للمُجتمع، وكان هَمُّه الوحيد إعطاء تعاليم خُلقية وتمييزها عن قوانين الدولة، وهذا يرجِع بوجهٍ خاصٍّ إلى جهل الفريسيين الذين كانوا يَظنُّون أنّ تطبيق القواعد القانونية للدولة؛ أي شريعة موسى، كافٍ ليعيشوا سُعداء، مع أنَّ هذه الشريعة لم تكُن تهدُف إلّا مصلحة الدولة، ولم تكن غايتُها تنوير العبرانيِّين، بل إرغامهم.

 

اقرأ أيضاً: المعجزات في الدين: هل يحتاج الإيمان إلى معجزات إلهية؟

على كلّ مجتمع ـ إن أمكنه ذلك ـ أن يُقيم سلطة تنبثِق من الجماعة على نحوٍ من شأنه أن يكون الجميع مُلزَمين بأن يُطيعوا أنفسهم لا أمثالهم، أمَّا إذا وُضِعت مقاليد السُّلطة في أيدي أفرادٍ قلائل، أو في يدِ فردٍ واحد، فيَجِب أن يكون لدى هذا الفرد شيء أسمى من الطبيعة الإنسانية، أو على الأقل يَجِب أن يُحاول بقدْرِ طاقته أن يُقنِع العامَّة بذلك.

رفَضَ أن يقوم أفراد الشعب ـ الذين اعتادوا العبودية ـ بأيِّ فعلٍ بمحضِ إرادتهم، حتى يظلَّ هذا الشعب، الذي لم يكن يستطيع أن يَحكُم نفسه، مُقيَّداً بكلمة الرئيس الآمِر؛ إذ لم يكن الشعب يستطيع أن يفعل شيئاً دون أن يلتزم بالقانون؛ وهو أن يُنفِّذ الأوامر الصادرة عن الرئيس وحده. فلم يكن مسموحاً له أن يفعل شيئاً بمحضِ رغبته، وكان عليه أن يُراعي طقساً دينيّاً مُعيّناً للفلاحة والبَذْر والحصد، ولم يكن باستطاعته أن يتناوَلَ طعامه، ويلبس ويُعنى بشَعر رأسه ولِحيتِهِ، ويلهو أو يفعل أيَّ شيءٍ، إلّا بالامتثال لشعائر دينية إجبارية ولأوامر تفرِضُها القوانين.

 

اقرأ أيضاً: الخوف والتأمل بما هما المكون المؤسس للفكر الديني

ولم يكن هذا كله كافياً، بل كان عليهم أن يَضعوا على عتَبات المنازل وفي الأيدي وبين العَينَين علامةً ما تُذكِّرهم بالطاعة. هذه إذن كانت غاية الشعائر الدينية: ألَّا يفعل الناس شيئاً بمحض إرادتهم، بل تنفيذاً لأوامر الآخرين دائماً، وأن يَعترِفوا بأنّهم في جميع أفعالهم وفي جميع أفكارهم ليسوا أحراراً مُطلقاً، بل خاضِعين كليَّةً لقاعدةٍ من وضع الآخرين. ويتَّضِح من هذا كله وضوح الشمس أنَّ الطقوس الدِّينية لا تُوصِّل إلى السعادة الروحية، وأنّ طقوس العهد القديم، بل وشريعة موسى كلها، تتعلَّق بدولة العبرانيين وحدَها، وبالتالي تهدُف إلى تحقيق بعض وسائل الراحة المادية.

 

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين القسوة والتطرف؟

نوع الناس الذين يكون الإيمان بقصص الكُتُب المُقدَّسة ضروريّاً لهم وما أسباب ذلك؛ إذ يتَّضِح تماماً مِمَّا بيَّنتُه الآن أنّ معرفة هذه القصص والإيمان بحقيقتها ضروريٌّ إلى أقصى حدٍّ للعامة الذين لا تقوى أذهانهم على إدراك الأشياء بوضوحٍ وتَميُّز. ليس على العامة إذن إلَّا أن يعرفوا القصص التي يُمكن أن تُحرِّك النفوس إلى أقصى حدٍّ، وتحثّ على الطاعة والخشوع. ومع ذلك، فإنَّ العامة لا يستطيعون الحُكم على هذه الأمور من تلقاء أنفسهم، خاصةً أنّهم يُعجبون بالروايات والنهايات العجيبة غير المُتوقَّعة للأحداث، أكثر من إعجابهم بالعقيدة نفسها التي تُعلِّمها هذه القصص؛ لذلك كان العامة في حاجة، بالإضافة إلى هذه القصص، إلى قُسُس أو إلى كهنة الكنيسة يُعطونهم تعاليم تتناسَبُ مع ضَعف تكوينهم الذهني.

يجادل سبينوزا أولئك الذين يُسلّمون بأنّ النور الفطري لا يستطيع أن يَدلَّنا على الصواب فيما يتعلَّق بالخلاص      

يقول موسى بن ميمون: ويعمل بها بجميع جوارحه، ويكون من بين الأتقياء في الأمم، ويَرِث الحياة الأخرى، شريطة أن يكون قد قَبِلَ بهذه الوصايا وعَمِل بها؛ لأنَّ الله وضعها في الشريعة وأوحى لنا عن طريق موسى أنّه أعطى هذه الوصايا من قبل أبناء نوح، ولكنّه لو عمِل بها كما يُمليها العقل.

يجادل سبينوزا أولئك الذين يُسلّمون بأنّ النور الفطري لا يستطيع أن يَدلَّنا على الصواب فيما يتعلَّق بالخلاص؛ فالواقع أنَّ من يعتقدون هذا الرأي، كما يقول، لا يستطيعون أن يُؤيِّدوه بالعقل؛ لأنَّهم لا يعترفون بأنّ لدَيهم أيَّ عقلٍ سليم، وإذا كانوا يتفاخَرون بأنَّ لدَيهم هبة أسمى من العقل، فإنّها في الحقيقة مَحْض خيال.

المرء لا يُعرَف إلَّا من أفعاله، وإذن فَمَن يحمِل بوفرةٍ ثماراً كالإحسان والفرَح والسلام وعدالة النفس والطِّيبة وحُسن النِّية والحلم والبراءة وضبط النفس، كلُّها أمور لا تتعارَض مع الشريعة، كما يقول بولس، سواء أكان قد تعلَّم هذه الأمور من العقل وحدَه أم من الكتاب وحده، فإنَّ الله الذي علَّمَه إيّاها بالفعل، وهو بذلك يملك السعادة الروحية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية