الصراع على السلطة من دولة الخلافة إلى واقعنا المعاصر

الصراع على السلطة من دولة الخلافة إلى واقعنا المعاصر

الصراع على السلطة من دولة الخلافة إلى واقعنا المعاصر


10/10/2023

تُعد إشكالية الحكم والسُّلطة في التاريخ الإسلامي من أعوص المسائل التي طبعت مسيرة التاريخ الإسلامي؛ حيث إنّ الصراع عليها، ومن أجلها، وبسبب غياب الآليات الواضحة لتنظيمها، قد أدى إلى اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين (عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان ، علي بن ابي طالب) رضي الله عنهم، وإذا قبلنا بعض الروايات التي تحدثت عن تسميم أبي بكر، رضي الله عنه، يكون الأربعة الراشدين قد تم اغتيالهم!!

بدأت أزمة السُلطة مبكراً في تاريخ الإسلام والمسلمين، بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، حينما اجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ حيث جرت بين الطرفين سجالات ومرافعات حول أحقية كل طرف منهم بزعامة دولة المدينة؛ فالمهاجرون احْتَجُّوا باعتبارهم آل النبي وعشيرته، وبأن العرب لا ترضى الإمارة إلا لهذا الحي من قريش، بينما احتجَّ الأنصار بأنهم أول من نصر وآزر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم، وإلى ديارهم كانت الهجرة.

تُعد إشكالية الحكم والسُّلطة في التاريخ الإسلامي من أعوص المسائل التي طبعت مسيرة التاريخ الإسلامي

وبعد سجالٍ طويل أوشك أن يؤدي إلى صدام بين الطرفين، تصدَعت جبهة الأنصار، حين بادرت أطراف منها بمبايعة أبي بكر، رضي الله عنه، أميراً لدولة المدينة، وتبعهم المهاجرون، وما لبث أن التحقت بهم بقية الأنصار. وبذلك كانت بيعة أبي بكر، رضي الله عنه، "فَلْتَةً وَقَى اللَّهَ المؤمنين شَرَّهَا"، حسب تعبير عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ أي كانت مفاجئة وغير مدبرة وقى الله فتنتها.

وإذا أخذنا في الاعتبار أيضا تمنّع أو تأخر الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عن البيعة، يتضح لنا عمق المأزق الذي اكْتَنَف مسألة الحكم منذ بداية تأسيس دولة المسلمين الأولى.

وقد اعترضت بعض القبائل العربية على بيعة أبي بكر، رضي الله عنه؛ لأنها لم تشارك في اختياره، لذلك رفضت أن تدفع الزكاة، التي هي بمثابة الضرائب اليوم، وبالتالي أعلنت عصيانها وخروجها على السلطة الجديدة في المركز، فهي لم توافق على تسيّد قريش دون غيرها من القبائل. ورداً على ذلك قام أبوبكر، رضي الله عنه، بإرسال الحملات العسكرية للقضاء على تمردها؛ حيث إنه رأى في ذلك ردة سياسية توجب العقاب، لإرجاعها وإخضاعها لسلطة الدولة.

مجتمعاتنا اليوم ما هي إلاّ أحد تجلِّيات ذلك التاريخ التي تكشف عجز أسلافنا عن حل المُشْكِل السياسي سلمياً

وفي عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أواخر سنوات حكمه، حدث تذمر في بعض أمصار الدولة (العراق ومصر) من تَسلُّط أقرباء الخليفة واحتكارهم للموارد الاقتصادية، وبعد فشل الحوار مع ممثلي هذه الأمصار تطور الأمر إلى قتل عثمان سنة 35 هـ، وأطلق المؤرخون المسلمون على هذه الحادثة مصطلح "الفتنة الكبرى".

تمت بعد ذلك مبايعة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، خليفة للمسلمين، غير أنّ قسماً من المسلمين لم يرضَ عن تولّي الإمام علي، واتهموه بـ"التلكؤ" في الاقتصاص من قتلة عثمان، لذلك ساروا إليه في  العراق، وكان قد نقل مركز الحكم إلى الكوفة، تقودهم السيدة عائشة، رضي الله عنها، والزبير بن العوام، وطلحة بن الزبير، رضي الله عنهما، والتقى الطرفان في موقعة عرفت بـ "حرب الجمل" العام 36هـ، نتج عنها مقتل الزبير وطلحة، ونحو ثلاثة عشر أَلْفًا من الطرفين، وفي رواية عشرون ألف.

اقرأ أيضاً: الإسلام.. والسلطة الدينية

كذلك رفض معاوية بن أبي سفيان، والي الشام، أن يبايع الإمام علي، وطالبه بالقصاص من قتلة عثمان أولاً، وتطور الأمر بينهما إلى القتال؛ حيث التقى أهل العراق وأهل الشام في صفين عام 37هـ، ودارت بينهما معركة أدت إلى مقتل ما يقارب السبعين ألفاً من الطرفين. ولم يتوقف القتال بينهما إلا بعد رفع المصاحف على أسنّة الرماح للمطالبة بتحكيم كتاب الله بينهما؛ حيث تم الاتفاق أن يحكِّم كل واحد من الاثنين -علي ومعاوية- رجلاً من جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة للمسلمين.

امتدت سطوة السيف حتى العصور اللاحقة من تاريخ المسلمين حيث غاب فقه التداول على السلطة

التقى الحكمان في أذرح، تقع في محافظة معان جنوب الأردن؛ حيث كان أبو موسى الأشعري يمثل علياً، وعمروبن العاص يمثل معاوية، إلا أن الاجتماع فشل وعَمَّقَ الأزمة بدلاً من حلها، وبقي كل طرف على موقفه.

وبعد ذلك تم اغتيال الإمام علي، على يد عبدالرحمن بن ملجم الخارجي، وتولى الأمر من بعده ابنه الحسن الذي ما لبث أن تنازل لمعاوية عن الخلافة عام 41هـ، فسمي هذا العام "عام الجماعة".

إذن، فمنذ السقيفة بدأ الصراع على السلطة وتطور إلى صدام مسلح، وفي ذلك يقول الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل (ت :548هـ) "أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة. إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سُلَّ على الإمامة".

اقرأ أيضاً: لماذا علينا ألّا نقع في هوى السلطة؟

وقد امتدت سطوة السيف حتى العصور اللاحقة من تاريخ المسلمين؛ حيث غاب فقه التداول على السلطة، ولم تنجح المجتمعات المسلمة في وضع أسس عقد اجتماعي يكفل حل إشكالية الصراع على السلطة السياسية؛ حتى أنّ المؤلفات التي وضعها رجال وفقهاء الدين آنذاك  فيما عرف بكتب "السياسة الشرعية" و "الأحكام السلطانية" و "مرايا الملوك" لم تساهم في تقديم حلول نظرية أو عملية تساعد في حل تلك المعضلة أو الإشكالية، بل إنها عملت على "شرَعنة" الاستبداد السياسي الذي كانت تعايشه!

لم تنجح المجتمعات المسلمة في وضع أسس عقد اجتماعي يكفل حل إشكالية الصراع على السلطة السياسية

لذلك كله، فمجتمعاتنا اليوم ما هي إلاّ  أحد تجلِّيات ذلك التاريخ وصيرورته، التي تكشف عجز أسلافنا عن حل المُشْكِل السياسي سلمياً وتوافقياً، ما أوقعنا في فخ العنف، وحرب الكل ضد الكل، حسب تعبير هوبز، وبالتالي عجزنا عن تخطي العائق والمأزق التاريخي، ففشلنا في التوافق على تَشْيِيدِ منظومة فكرية جديدة تتجاوز ذلك الموروث الثاوي في بنيتنا العقلية الجمعية، الذي  يُشكّل وعينا وسلوكنا الاجتماعي والسياسي اليوم؛ حيث غدت أغلب مجتمعاتنا تعيش حالة "ما قبل الدولة" التي من أبرز سماتها تفشي القبيلة والعقيدة على حساب رابطة الوطن والمواطنة.

  فانسداد أفق إمكانية إنجاز عقد اجتماعي جديد، وتَعَذَّر شيوع قيم الدولة المدنية العلمانية التي تكفل العدالة الاجتماعية للجميع، والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، أدى إلى شيوع ثقافة التعصب والتكفير والإرهاب؛ المعنوي والمادي، وغياب إستراتيجية التسويات التاريخية التي تنهي كافة الصراعات المذهبية والدينية والسياسية التي تنتمي للماضي البعيد.

الصفحة الرئيسية