الطمأنينة بين اليقين الديني والشك العلمي: هل يصبح العلم وسيلة لمواساة الإنسان؟

الطمأنينة بين اليقين الديني والشك العلمي: هل يصبح العلم وسيلة لمواساة الإنسان؟


17/01/2021

ظلت الأديان لقرون عديدة مصدراً لمعرفة البشر، فمنها ينهل الإنسان تصوّراته عن الكون ونواميسه، ولم تكن المعلومات التي أُحيلت إلى الأديان في عمومها عن زمانية الكون وتكوينه ومركزه منضبطة علمياً؛ فالكون لا يملك شمساً واحدة، والأرض ليست مركز الكون، ولا هي مسطّحة كما في التصوّرات الراسخة في بعض المصادر التراثية.  

لطالما كان المجال المعرفي للأديان مختلفاً عن منهجية العلوم الطبيعية
 

لطالما كان المجال المعرفي للأديان مختلفاً عن منهجية العلوم الطبيعية؛ حيث إنّ فلسفة الأديان قائمة على تحمّل البشر مصاعب الحياة في سبيل المكافأة الأبدية بعد الممات،  ومن هنا جاءت الفلسفة الروحانية للأديان، الساعية إلى طمأنة نفوس البشر تجاه المجهول.

أمّا العلوم، فهي تولي اهتمامها بالحياة على الأرض لا بعد الممات، لهذا فإنّ العلم يتبع منهجية الشك، لا اليقين التام التي تقدمها الأديان للإنسان على سبيل الطمأنينة من المجهول؛ فالعلم قائم على المرونة والتطور والسعي لاكتشاف ذلك المجهول، ممّا يستدعي دحض الاكتشافات السابقة، بما فيها النظريات العلمية القديمة وليست اللاهوتية فحسب، لذلك فإنّ فلسفة العلوم لا تستهدف المعتقدات، وإنما تسعى للاكتشافات التي قد لا تروق لبعض المتمسّكين بحرفية النص.

هل يتعارض العلم مع التصوّرات الدينية؟

هذا التساؤل الشائع المتكرر في حدّ ذاته ليس منضبطاً من ناحية المنهجية، ويقع في إطار القياس الفاسد، فلا توجد مثلاً كيمياء إسلامية وأخرى هندوسية، فالعلوم متحرّرة من الأديان، بسبب اختلاف المنهجية. 

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون المستبدّ تنويرياً؟

فالعلم في حدّ ذاته لا دين له؛ لأنّ غرض العلم لا يتمحور حول استفزاز المؤمنين والنكاية في عقائدهم، لكن لا يسعى العلم كذلك إلى التوافق مع الرواية الدينية بالضرورة في تصوّراتها عن الفيزياء الكونية أو علم الأحياء أو الكيمياء، فهذا ليس مجال العلوم.

العلم يتبع منهجية الشك لا اليقين التام التي تقدمها الأديان للإنسان على سبيل الطمأنينة من المجهول
 

لا يسعى البحث العلمي إلى هدم الإيمان، وإنما يهتمّ العلم بألّا يعيقه ما يُعتقد أنه يقين ديني عن أبحاثه، وعلى المنوال نفسه، لا تعترض المنهجية العلمية، مثلاً، على تضرّع المؤمنين لله أثناء تناولهم العلاج الموصى به، فهذا أمر يخصّ المؤمن ولا يخصّ المنهج العلمي طالما لا يعيقه.

الأصولية الدينية وجدلية العلوم غير النافعة

من أين جاءت إذاً جدلية العلوم غير النافعة؟ تنصبّ تلك الجدلية على 3 إطارات يمكن رصدها، ومن ثمّ تناولها تفصيلاً:

- اتهام العلم بغياب الضمير الإنساني. 

-  إنكار الأصوليين لتاريخ العلم واجتزاء قراءته.

- السعي إلى اقتران العلم بالنص الديني: الإعجاز العلمي.

وليكن السجال في تناول تلك النقاط بشكل مقتضب على النحو التالي:

أوّلاً: العلم يسعى للتطور كلما تطورت المخاطر البيئية التي يعايشها الإنسان، لكن هذا لا يجعل منظومة العلم منزّهة تماماً، فهناك من يستغلّ حاجة البشر للدواء، لكنّ تعميم فساد البعض على الكل يُعدّ اختزالاً لتاريخ العلم وشخصنة غير عقلانية. فاستغلال بعض شركات الأدوية لتفشي الأوبئة لا يعني أنّ الاختبارات المعملية غير ضرورية. 

اقرأ أيضاً: "لا إكراه في الدين".. كيف نفهمها؟

وفي هذا الصدد يقول الكاتب الأمريكي، مايكل سبكتر، في كتابه إنكار العلم Denialism  الصادر في العام 2009: "الهدف هو إصلاح المنظومة لا إنكار ما يقدّمه البحث العلمي  للبشرية".

ولنضع نظرية سبكتر رهن التدقيق أكثر، فلنتخيل مثلاً انقطاع الأوكسجين عن المرضى في مستشفى ما، وهو ما أدّى إلى وفاتهم، هل هذا يعني عدم جدوى استخدام الأوكسجين الذي أنقذ حياة الملايين من البشر فيما سبق، أم يعني ضرورة إصلاح منظومة الرعاية الطبية؟   

تعتمد القراءة المجتزأة لتاريخ العلم على محاولة تصويره بأنه لا حيلة له أمام الابتلاءات
 

ثانياً: تعتمد القراءة المجتزأة لتاريخ العلم على محاولة تصويره بأنه لا حول له ولا قوة أمام الابتلاءات، فيرتكز الخطاب الأصولي على تهميش دور العلم ونزع أي صفة خارقة عنه. لكنّ منهجية العلم لم تدع أيّ قوة خارقة بالأساس؛ أي إنّ الأصولي يسعى إلى إنكار صفة لا علاقة لها بالمنهجية العلمية، فالعلم لم يقدّم وعوداً تتضمّن الإتيان بخوارق طبيعية، وإنما يعلن عن اكتشافاته كلّ حين.

اقرأ أيضاً: كيف وظفت السلفية الجهادية مفهوم الطاغوت في القرآن الكريم؟

كما أنّ محاولة تصوير العلوم بالعجز عن إفادة البشر في الخطاب الأصولي، ما هو إلا إنكار لماضي التاريخ العلمي الذي تصدّى للأوبئة، وتوصل إلى جراحات الاستئصال وزراعة الأعضاء وتوفير العلاج لكثير من الأمراض التي كانت تودي بحياة أصحابها في زمن الوحي الإلهي نفسه.

اقرأ أيضاً: كيف جرى تديين النزاعات في الخطاب السياسي المعاصر؟

تصوير عجز العلوم أمام الإرادة الإلهية في الخطاب الأصولي فيه قصور، فقد يتساءل أصحاب المنهجية العلمية أو المؤمنون على حد سواء عن تلك  الحلول الإلهية الخارقة في ظل ادعاء عجز العلوم، ممّا يدخلنا في صراع يحيد بنا عن الأزمة.

ثالثاً: يتسابق بعض الأصوليين، بمن فيهم المتعلمون والمتخصّصون، في الإعلان عن احتواء نصوص كتبهم المقدّسة على تنبؤات علمية، فيما يُعرف بالإعجاز العلمي، ولا إشكالية في حرّية الاعتقاد حسب تصوّرات كل مؤمن، لكنّ الإشكالية هنا هي السعي إلى ادعاء احتواء الكتب المقدّسة على كافة الإجابات العلمية، ممّا يُضعف تنشئة أجيال قادمة على الاحتكام للمنهج العقلاني، وما له من أثر سلبي يؤدي إلى تراجع الشعوب علمياً، فتظلّ تلك الأمم مستوردة للعلم لا منتجه له.

ادعاء احتواء الكتب المقدّسة على التنبؤات العلمية قد يأتي بنتيجة عكسية
 

كما أنّ ادعاء احتواء الكتب المقدّسة على التنبؤات العلمية قد يأتي بنتيجة عكسية، فربط الثابت بالمتغير يصبّ في مصلحة التطور العلمي، لا ثبات النص الذي قد يتمّ دحضه.

وقد يؤدي هذا الجدال إلى التساؤل عن تلك المكتشفات التي لم يتنبأ بها الإعجاز العلمي للنصوص الدينية، ولماذا يتجلى الإعجاز النصي بعد الاكتشاف العلمي وليس قبله؟ فنجد أنفسنا أمام تساؤلات أكثر جدلية تتساءل أين النص الديني المتنبئ بدور الهندسة الوراثية في الزراعة، أو تقدّم تقنيات تحلية المياه؟ وأين النصوص المتنبئة بالمجرّات التي اكتشفتها علوم الفيزياء الكونية في العقود الماضية، ولم تطلّع عليها البشرية إلا في الماضي القريب؟ فيدخل الدين في مجال ليس مجاله. 

مواساة العلم للبشرية: قراءة في فلسفة آلان دي بوتون

جدلية فصل الدين عن العلم واختلاف منهجيتهما ليست أمراً مستجدّاً في الطرح، وإنما يتجدد الحديث عنها بين الحين والآخر، وقد تعاظم مؤخراً مع انتشار وباء يجتاح العالم، لكنّ ما استجدّ في الفلسفة المعاصرة هو الحديث عن العلوم الحديثة وأثرها في بعث الطمأنينة في وجدان البشر، فهل هذا ممكن؟ هل يمكن للمنهجية العلمية الخالية من المشاعر أن تبعث الطمأنينة في وجدان البشر؟

اقرأ أيضاً: ما أثر موروث الاستعلاء الديني في الزواج المختلط؟

هذا ما يسعى (آلان دي بوتون) Alan De Botton إلى طرحه، وهو فيلسوف سويسري، وُلد في زيورخ في العام 1969 بعد هجرة أبيه عن موطنه بالإسكندرية في مصر إلى سويسرا.

جدلية فصل الدين عن العلم واختلاف منهجيتهما ليست طرحاً جديداً  
 

درس (بوتون) التاريخ في جامعة كامبريدج، ومن ثمّ الفلسفة في جامعة كنجز كوليدج في لندن، ومن ثمّ تخصّص في تبسيط الفلسفة للجماهير.

يطرح (بوتون)، وهو مؤلف كتاب (عزاء الفلسفة) The consolations of philosophy  الصادر في العام 2000، دور العلم في بعث الطمأنينة في النفوس، ويتساءل: هل يقدّم العلم الطمأنينة كما فعلت الأديان من قبل؟

يجدر بنا قبل الخوض في فلسفة (بوتون) التأكيد أنه يقصد الجانب الروحاني للأديان في عمومها، والذي يسعى الإنسان إلى الاحتماء بها من المجهول، ولا يقصد الأديان بالمفهوم السلطوي أو الشمولي.

كيف يواسي العلم الإنسان حسب فلسفة بوتون؟

العلم يمنح الطمأنينة، لكن ليس من خلال ادّعاء اليقين المطلق كما تفعل الأديان، وإنما من خلال ما تقدّمه الأبحاث العلمية من مستجدات، وتستند تلك المستجدات إلى النقد العلمي، بما فيها نقد العلم لذاته، فتصبح قدرة العلوم على إصلاح مسارها مبعثاً للطمأنينة.

وقد تتشابه فلسفة (بوتون) مع رأي الفلكي الأمريكي كارل ساغان (1934-1996)، الذي كتب في مقاله الصادر في العام 1987: "العلم يصحح مساره حين يخطئ، ولا يشعر بالحرج من  ذلك، بل يحدث الأمر كلّ يوم".

والمثير للانتباه أنّ (ساغان) اختار "عبء الشك" The Burden of Skepticism  عنواناً لمقاله، على الرغم من أنّ المقال ذاته تعامل مع مفهوم تصحيح المسار العلمي كوسيلة لشعور الإنسان المعاصر بالأمان والأمل في المستقبل وليس العبء.

 وقد نقيس تلك النظرية على تطلعات العالم، بشعوبه وأديانه المختلفة اليوم، إلى لقاح يحدّ من انتشار وباء يحصد الأرواح في الزمن المعاصر، ممّا نتج عنه حالة أشبه بمناجاة العلم. 

اقرأ أيضاً: العلمانيوفوبيا: رهاب العلمانية في خطاب التنظيمات الراديكالية

أمّا (بوتون)، فقد أضاف رؤية أخرى عن دور العلم في مواساة الإنسان وبعث الطمأنينة في نفسه، إلى الدرجة التي قد تجعله يدرك أنّ مشاكله اليومية هينة، مهما كانت تبدو عصيبة.  

يُسمّي (بوتون) هذه الفلسفة "منظور الكون ومقياسه": Perspective – The Scale of the Universe

حسب تلك النظرية، يرى (بوتون) أنّ الإنسان المعاصر يُعظّم من مشاكله وتخوفاته من  الشعور بالضآلة، ولكنّ الحلّ هنا لا يكمن في تعظيم أهميتنا، وإنما الارتياح في كينونتنا الصغيرة بالمقارنة مع حجم الكون ومجرّاته ونجومه، فالسلام النفسي لا يتأتى من البحث عن مكانة أعلى، حسب المتطلبات المجتمعية المفروضة علينا ونظرتها الضيقة للحياة، وإنّما بالتمعن في حالنا ومشاكلنا من خلال منظور كوني أتاحه لنا العلم، فنرى ضآلة مشاكلنا بالمقارنة مع حجم  الكون الشاسع، الذي فاق تصوّراتنا فيما مضى.  



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية