العثمانية الجديدة وأحلام التوسع المستحيلة.. أيّ وهم يعيشه أردوغان؟

العثمانية الجديدة وأحلام التوسع المستحيلة.. أيّ وهم يعيشه أردوغان؟


15/06/2020

ربما كانت محاولات الإحياء العثماني، التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أحد تجليّات المشروع الأيديولوجي الذي يعتنقه حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم، ورداً على رفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وما نتج عنه من خيبة أمل اقتصادية، ورغبة في كسب ظهير شعبي، داخلي وخارجي، يستطيع أردوغان من خلاله القضاء على المعارضة الداخلية، ومساومة المجتمع الدولي لتصفية القضية الكردية، ومن ثم طرح اسم تركيا، من خلال الغطاء الأيديولوجي، كأحد اللاعبين الكبار في الشرق الأوسط، وهو ما يعني ملء الفراغ السياسي، بصورة وظيفية، تحت ستار الحفاظ على استمرار تدفق النفط، ومنع حركة اللاجئين، وحل القضية الفلسطينية.

تحاول العثمانية الجديدة تحقيق الانتشار، في المناطق التي سيطر عليها الاحتلال العثماني في الماضي

وترتكز العثمانية الجديدة على بعدين أساسيين لتحقيق الانتشار في المناطق التي سيطر عليها الاحتلال العثماني في الماضي، الأول؛ هو استدعاء التاريخ وفق رؤية انتقائية، وكان اللعب على وتر الدين أبرز معطيات هذا الانتشار الثقافي، مع توظيف إشكاليات الراهن المأزوم. ولتنشيط آليات عمل هذا الاتجاه؛ اعتمد المشروع التركي على الجماعات الدينية، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، للانتقال بوسائط الصحوة الإسلامية من مرحلة الانتشار الشعبي، بعد تحقيقه، إلى مرحلة التوظيف الأيديولوجي.
أمّا البعد الثاني، فهو البعد الوظيفي، من خلال انتهاج سياسات انتهازية وتقديم خدمات للقوى الكبرى الفاعلة على الصعيد الدولي، مقابل التغاضي عن الانتهاكات المتتالية في الداخل والخارج وغض الطرف عن محاولات التمدد، وهي استراتيجية اعتمد فيها الجانب التركي على سياسة إشعال الحرائق، قبل أن يظهر في دور رجل الإطفاء، الباحث عن مقابل لتضحياته النبيلة!! من هنا اتخذ مصطلح الــ "نيو-عثمانية/ العثمانية الجديدة"، مساراً أشبه بالانقلاب على السياسة القومية الكمالية، التي انتهجتها أنقرة منذ سقوط دولة الخلافة في الربع الأول من القرن العشرين.
الدراما التركية.. نصل الصحوة الحاد
عمد الجهاز الأيديولوجي إلى تفعيل أدوات انتشاره في المنطقة، من خلال استدعاء نماذج من التاريخ العثماني، وفق نهج حاول تجميل هذا التاريخ، ولو عن طريق التزييف، ومد خط القداسة الديني، إلى لحظة التأسيس الأولى؛ ليصبح أرطغرل، وعثمان، وأورخان، وبايزيد، بمثابة الخلفاء الراشدين الجدد، حيث وظفت الدعاية الإعلاميّة التركية هذا التاريخ في أعمال درامية، اعتمدت على الإبهار، واستدعاء النزعة الجهادية وعناصر الحماسة الدينية، وسرعان ما انتشرت هذه الدراما في العالم العربي، ما استبدل الأبطال القوميين بأبطال عثمانيين جاؤوا من خارج خط التاريخ المحلي، في عملية غسيل للعقول، تستهدف عثمنة العقل العربي وفق هذا المحتوى الزائف.

اقرأ أيضاً: العثمانيون يعودون على مرأى العالم
ويمكن القول إنّ الدراما التاريخية التركية، جاءت في مرحلة ما بعد الوهابية، كموجة أخيرة من موجات الصحوة الإسلامية، لتستفيد من زخم "السوشال ميديا"، في طريقها لتغيير الوجدان الثقافي للمنطقة، مستغلة حالة الفراغ الهائل، وفي هذا الوقت كان الإخوان المسلمون يزحفون فوق أشلاء ربيع العرب الحزين، لتحويل الدفة وتغيير المسار.
المتاجرة بالقضية الفلسطينية
ربما كانت القضية الفلسطينية، أحد أهم الأوراق الرابحة، التي قدّم أردوغان من خلالها أوراق اعتماده للشارع العربي، وللولايات المتحدة، بل لإسرائيل نفسها، وفق استراتيجية وظيفية تعمل على عدة محاور وفي خطوط متوازية.

إنّ القضية الفلسطينية من أهم الأوراق الرابحة، التي قدّم أردوغان من خلالها أوراق اعتماده للشارع العربي ولأمريكا ولإسرائيل نفسها

بالنسبة للشارع العربي، ظهر خطاب يروّج لنموذج الإسلام التركي المعاصر، كحليف جديد بات مرتبطاً بقضايا العرب المصيرية، وفيه أصبح أردوغان يُمثّل نموذجاً إسلامياً حداثياً، يستلهم نهج عدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، ويتقاطع بشكل صارم مع إرث العلمانية الأتاتوركية، وانطلق أردوغان من قضية فلسطين، ليغازل العرب بتصريحات عنترية، يطالب فيها إسرائيل، وبشكل متكرر، بوقف العمليات العسكرية في الأراضي المحتلة وإطلاق سراح المعتقلين ويرفع الشعارات البراقة ويفتح الطريق أمام القوافل لكسر الحصار عن قطاع غزة. وفي الوقت ذاته، عملت آلة الدعاية الإسلاموية على تضخيم هذا الخطاب، والمقارنة بينه وبين الخطاب الرسمي للحكومات العربية، الأمر الذي بلغ ذروته إبان حادثة السفينة مرمرة الزرقاء، التي استهدفت كسر الحصار عن غزة، في 31 أيّار (مايو) من العام 2010، وهاجمتها البحرية الصهيونية في المياه الدولية، وقتلت تسعة من الأتراك الذين كانوا على متنها.
وبالطبع، قامت الدعاية الإسلاموية، بتضخيم رد الفعل التركي الهزيل، وتجاهلت قيام تركيا بمنع أسطول الحرية الثاني، وبشكل صارم، من التحرّك لكسر الحصار عن القطاع في العام 2011، مع غض الطرف عن ازدهار التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب واستمرار التعاون العسكري، وهو الأمر الذي نجح في خداع الشارع العربي المُنهك والمهزوم، والذي يبحث منذ عقود عن بطله الموعود، بين ركام الأمنيات.

اقرأ أيضاً: إعلامي تركي: القطريون من سلالة العثمانيين.. كيف سترد وسائل الإعلام القطرية؟
بالنسبة للولايات المتحدة، حرص أردوغان على تقديم نفسه لها، كعراب محتمل للعالم العربي، منذ قيامه برعاية جولات المفاوضات الأربع السرية بين سوريا وإسرائيل في العام 2008. ومع انفجار عاصفة الربيع العربي وصعود التيارات الإسلاموية الموالية لأنقرة، وفي لقاء مع باراك أوباما، زعم أردوغان أنّه وحده، يحمل مفاتيح الربيع العربي، وأنّه في ظل صعود الإخوان في مصر وتونس والمغرب، أصبح متعهد العرب الذي يحظى بثقتهم، وهذه الثقة وحدها، سوف تُمكّنه من التوسط، لعقد صفقة سلام نهائية بين العرب وإسرائيل.

اقرأ أيضاً: أردوغان وأوهام "العثمانية الجديدة"
أمّا بالنسبة لإسرائيل، فليس أبلغ من المصطلح الذي نحته شمعون بيريز، بأنّ تركيا "عشيقة ترفض الزواج"، لوصف العلاقة بين الطرفين؛ فأردوغان لم يوقف علاقته مع إسرائيل سراً وعلناً، حتى وإن تظاهر بغير ذلك، ولعلّ النفوذ الذي يحظى به رجل الأعمال الإسرائيلي من أصل تركي، أليكو دونميز، في دوائر القصر الرئاسي التركي، والعلاقات التي تربطه بأردوغان، تحمل مؤشراً لوجود خط خلفي في العلاقة بين تركيا وإسرائيل، ما جعل حجم التبادل التجاري بينهما يقارب الـ 5 مليارات دولار في العام 2017، كما تحتضن تركيا أكبر مصانع أسلحة للجيش الإسرائيلي بعد الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أنّ أردوغان كان الوسيط الوحيد، الذي منحته إسرائيل ثقتها، لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي لدى حماس، جلعاد شاليط.
وهم الهيمنة.. من التاريخ إلى الواقع
ارتبطت عبارة "رجل أوروبا المريض" طويلاً بالدولة العثمانية، لوصف الحالة التي وصلت إليها الإمبراطورية المُترهّلة. ومع اختلاف القوى العظمى على اقتسام الغنائم، جرى الاتفاق على الحفاظ على الرجل المريض، حياً لأطول وقت ممكن، إلى أن يتم حسم الصراع.
ربما نسي أردوغان، خليفة "الرجل المريض"، أنّه أيضاً يحمل الأعراض نفسها، وأنّ سقوط مشروعه مسألة وقت ليس إلّا، وأنّ الحرائق التي أشعلها في سوريا واليمن وليبيا، سوف يكون مطالباً في لحظة ما بدفع ثمنها، وأنّ بلاده التي لم تحل المشكلات الهوياتية المتأججة فيها، تورطت في صراعات خارجية لن يُسدّد فاتورتها أحد غيره، وأنّ التناقضات الداخلية، وإن خفّت حدتها تحت وطأة القمع والتنكيل بالمعارضة، سوف تنفجر في وجهه حتماً، كما أنّ القوى الدولية التي تتظاهر بغض الطرف عن محاولاته الرامية إلى التوسّع الخارجي، سوف تنقلب عليه عندما ينتهي غرضها منه.

تبدو إرهاصات سقوط أردوغان واضحة، مع استمرار تدهور سعر صرف الليرة مقابل النقد الأجنبي

تبدو إرهاصات السقوط واضحة، مع استمرار تدهور سعر صرف الليرة مقابل النقد الأجنبي، حيث بلغ المؤشر الاقتصادي أدنى مستوياته على الإطلاق، وعجزت البنوك الرئيسية عن الوفاء بالتزاماتها في موعدها، وخسرت الليرة نحو 18 بالمئة من قيمتها، وواصل المستثمرون بيع سنداتهم بشكل غير مسبوق.
كما يبدو تجدّد الصراعات الداخلية احتمالاً يفرض نفسه بقوة، وقد أفاقت المعارضة اليسارية من صدمة الإجراءات القمعية العنيفة التي اتخذتها الحكومة منذ العام 2016، وأثمرت معركة البطون الخاوية التي انتهجها يساريون عن ومضات ثورية تحمل مؤشرات الانفجار القريب؛ فتحولت جنازة إبراهيم جوكتشك، الذي توفي إثر إضرابه عن الطعام احتجاجاً على السياسات القمعية، إلى تظاهرة عارمة.
وبالمثل، يقف التيار القومي، وعلى رأسه حزب الحركة القومية، موقفاً معادياً لتوجهات أردوغان، حيث شنّ التيار حملة غير مسبوقة ضد الأخير، ووصفه بخائن القومية، داعياً إلى محاكمته. ونفس الأمر ينتهجه حزب الشعب الجمهوري، الذي يرفض بقوة السياسات الرامية إلى بناء حكم شمولي يقوم على "العثمانية الجديدة" التي تستدعي الحكم المطلق للسلاطين.
وعلى الصعيد الكردي، تتشكّل بودار ربيع كردي ساخن، في ظل إصرار حزب العمال الكردستاني على الانتقام، مع تواصل القمع العنصري وقصف مواقع الحزب ومعسكراته في جبال قنديل وغيرها، من قِبل الجيش التركي.
وعليه، قد يستطيع أردوغان، الهرب من تناقضات الداخل بعض الوقت وإيهام نفسه بتحقيق أحلام الهيمنة في العالم العربي، لكنّه سيجد نفسه في النهاية، على مشارف موت أخير للرجل المريض.

الصفحة الرئيسية