العثمانيون ومفهوم الفتح الإسلامي

العثمانيون ومفهوم الفتح الإسلامي


27/02/2021

وليد فكري

"الفتح العثماني" هذا المصطلح يجلب الكثير من الجدل بين المدافعين عن العثمانيين والمنتقدين لهم... بين من يصفون حكم العثمانيين بالفتح والذين يصفونه بالاحتلال..

الأمر يحتاج إلى الإمساك بطرف الخيط من بدايته، وأعني بذلك الفتوحات الإسلامية الباكرة والتي وضعت المبادئ الأساسية لمفهوم الفتح، خاصة أن من قاموا بها قد عاصروا أول ذكر لهذا المصطلح في القرآن الكريم مثل "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" أو "إذا جاء نصر الله والفتح"..

من البداية نظر المسلمون للفتح أنه "دخول بلد غير مسلم في حكم المسلمين".. وينقسم الفتح بين "عنوةً" أو "الحرب" أي "بقوة السلاح وبعد قتال" أو "صلحاً" أي "بالتصالح مع أهل البلد"

هذا عن النظرة "النظرية"، ماذا عن تلك "العملية"؟

عمليًا فإن عملية الفتح تكتمل بـ"عمارة الأرض"، وهذا بإقامة مركز للحكم ونظام إداري وتقسيم للمهام.

هل يقتصر الفتح على ذلك؟ لا، بل إن المسلمون الأوائل كانوا لا يعتبرون أن حكمهم قد استقر إلا بالقيام ب"تأليف قلوب أهالي البلد" و"إزالة مظالم الحكم السابق"، وهو جزء من السياسة الإسلامية الأولى.. ويمكن للقارئ في سيرة الرسول ومواقفه في مكة والطائف بعد فتحهما أن يدرك ذلك..

وثمة نقطة هامة علينا التأكيد عليها: أن النظرة الإسلامية للفتح لم تقتصر على الجانب الديني منه وهو "تسهيل مهمة الدعوة للإسلام" وإنما تضمنت الجانب المادي والنفعي (وهو أمر ينفيه بعض المتشددين وكأنه يعيب مثلًا)، فخذ عندك مثلًا قول الرسول للصحابي عمرو بن العاص عندما أراد الرسول أن يوليه قيادة بعض السرايا "لتسلَم وتغنم" فقال ابن العاص "إني لم أسلم طمعًا في المال" فأجابه الرسول "نِعم المال الصالح للعبد الصالح"

فطلب الغنيمة المادية سواء كانت أموالًا أو بلادًا هو أمر بشري طبيعي لم يتنصل منه الإسلام.. وإنما جعله متأخرًا عن مطلب الدعوة للدين.

هذا فضلًا عن حقيقة تاريخية يدركها بسهولة القارئ المتمعن في التاريخ ألا وهي أن طبيعة العالم قديمًا كانت الغزو المتبادَل، ففكرة أن "تعيش في سلام منعزلًا عن الحروب والغزوات" لم يكن لها من مكان.. فالمبدأ كان "إن لم تغزو غُزِيت" وهو ما أدركته الحضارات القديمة كالمصريين والعراقيين والإغريق والرومان والفُرس وغيرهم.. فكان من المنطقي ألا يختلف موقف المسلمين، فحركة الحروب في العالم القديم لخصتها عبارة قالها نابوليون بونابارت بعد قرون هي "الهجوم خير وسيلة للدفاع".. خاصة أن الدول العظمى التي وُجِهَت الفتوحات الأولى لأراضٍ تابعة لها قد ناصبت المسلمين الأوائل العداء من البداية، فكِسرَى ملك فارس أمر واليه على اليمن بالقبض على الرسول من المدينة وإرساله إليه، وهرقل إمبراطور بيزنطة رغم حسن استقباله رسالة الرسول في البداية إلا أنه قد وافق ضمنيًا على قيام بعض ولاته بقتل أحد رسل الرسول إليه، وهو في العرف الدولي آنذاك إعلان حرب.

إذن فمن ناحية لم تكن الفتوحات الإسلامية الأولى تمثل خروجًا على النمط العالمي آنذاك ومن ناحية أخرى كانت ضرورية استباقًا لقيام الروم والفرس بأي إجراءات عدوانية كفيلة بالقضاء على دولة المسلمين في مهدها!

بل أزيدكم من الشعر بيتًا فأقول إن فتح مناطق مثل "بادية الشام والعراق" و"الأردن" يمكننا اعتباره بمثابة "حرب تحرير" لأن تلك المناطق عربية منذ زمن قديم، وقد ذُكِرَت في كتابات الأشوريين باسم "بلاد عريبي" والأردن عُرِفَ عند الرومان بـ "العربية الصخرية/Petra Arabea" وقد تعرضت بادية الشام ومنطقة الأردن لاحتلال الرومان ثم وَرثَتهم البيزنطيين، وبادية العراق احتلها الفُرس.. فالمسلمون إذاً إضافة لمسايرتهم نمطًا حربيًا سائدًا، ودفاعهم عن أنفسهم بانتهاج الهجوم، كانوا يحررون أرضًا عربية قديمة.

وعندما غزا المسلمون تلك الأقاليم-وغيرها-وفتحوها، لم يكتفوا بذلك بل أنهم قد عاشوا فيها واختلطوا بأهلها وصاهروهم وساكنوهم فسرعان ما صاروا منهم، فخلال سنوات قليلة صرنا نصف المسلمين في الشام بـ"الشاميين" وفي العراق بـ"العراقيين" وفي مصر بـ"المصريين" وصارت لدينا "نِسَب" لأناس كـ"البَصري" و"السكندري" و"الدمشقي" وغيرها.. ولذلك يصف المؤرخون فترة الفتوحات العربية للشام والعراق ومصر بأنها "إحدى حركات الهجرة من قلب الجزيرة العربية للعالم القديم" وليست بأنها مجرد توسعات عسكرية.

إذاً فمفهوم الفتح عندما وضعه المسلمون الأوائل-ومنهم الخلفاء الراشدون-كان يتضمن تعميرًا للأرض، إزالة للمظالم، اختلاطًا وامتزاجًا حضاريًا كاملًا، إقرارًا للعدل... وليس مجرد غزو لمجرد الغزو، ولا مجرد فرض للسيطرة وقهر للشعوب، ولا مجرد تحويل بلدان إلى بقر حلوب يصب في خزائن الحاكم... وهو ما يفسر استقرار الحكم للمسلمين في أغلب البلدان التي فتحوها في تلك الفترة.. ويمكننا بمقارنة صغيرة بين ذلك وما لاقاه العثمانيون من مقاومة وثورات وانشقاقات في الأقاليم التي حكموها في أوروبا مثلا، أن ندرك أن الحكم العثماني لتلك الأقاليم ارتكب أخطاءً فادحة ولم يتعلم من دروس الماضي ولم يأخذ من مفهوم "الفتح" سوى اسمه.

صحيح أن مع انحسار "النزعة الدينية للحكم" مقابل "المُلك الدنيوي" مع قيام الدول التالية للرسول وخلفائه الراشدين كالأموية والعباسية وغيرها قد تعرضت بعض البلدان المفتوحة أحيانًا لوقوع مظالم من بعض الولاة والحكام-خاصة في الجوانب المالية-ولكن تلك المظالم لم تقع على أهالي البلد بمناسبة كونهم كذلك بل عمت المسلمين مع غيرهم والعرب مع غيرهم، أي أن الظلم أو التعسف لم يقع على فئة بعينها لمجرد أنها مختلفة عن العنصر الحاكم في الدين أو العرق،  فقط كان أحيانًا "نوع" الظلم يختلف من فئة لأخرى (مثال: تعرض بعض المسيحيين واليهود في حالات حصرية لتعسف السلطة كان يوازيه تعرض بعض المسلمين لقمعها لأسباب وجوانب مختلفة) ولكنه كان ظلمًا في النهاية (وما سبق بالتأكيد ليس تبريرًا لوقوع مظالم من أي نوع وإنما توضيحًا لحقيقة تاريخية).

أما العثمانيون فقد كان ظلمهم منصبًا في الغالب على الفئات "غير عثمانية الأصل"، بمعنى أنه صحيح أن الدولة العثمانية قد اعتبرت كل من يعيشون على أراضٍ تابعة لها "رعايا عثمانيين" إلا أن هذا كان "نظريًا"، أما عمليًا فقد كان المنهج الأساسي للدولة العثمانية تجاه هؤلاء "الرعايا" هو التمييز العرقي بينهم من ناحية وبين المنتمين للعرق التركي والمتتركين من ناحية أخرى.. وهذا اختلاف آخر مع مفهوم الفتح الإسلامي الأوّلي.

هل يعني ما سبق أن حكم العثمانيين لم يكن فتحًا؟

بناء على ما سبق عرضه فإنه بالنسبة للعثمانيين هو بالتأكيد فتح طالما أنهم يقرؤون التاريخ من زاويتهم، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للحضارة الإسلامية التي نظرت للفتح بشكل أرقى بكثير من النظرة السطحية العثمانية له.

وللحديث بقية

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية