العقل الإخواني ومعضلة التقية المعادية لتأسيس الثقة

العقل الإخواني ومعضلة التقية المعادية لتأسيس الثقة

العقل الإخواني ومعضلة التقية المعادية لتأسيس الثقة


07/12/2023

هذه وقفة مكاشفة مع أحد الأمراض السلوكية التي يتربّى عليها العقل الإسلامي الحركي، خاصة العقل الإخواني، بخلاف السائد مع العقل السلفي، خاصة "السلفي الجهادي"، وعنوانها "معضلة التقية".

يقتضي الخوض في الموضوع؛ الإحالة إلى ما قد نصطلح عليه "مؤشر التقية"، الذي يقتضي بدوره أن ننطلق من أرضية نقيس عليها مستوى هذه الممارسة، ولو افترضنا أنّه لدينا "سُلّم التقية"، قياساً على "سُلّم ريختر" مثلاً، وهو مقياس مستويات الزلازل، والذي بمقتضاه، نقيس مستويات هذه الممارسة عند الفاعل الديني بشكل عام؛ سواء كان حركة إسلامية، أو طريقة صوفية، أو جماعة سلفية، ...إلخ، لوجدنا أنّ مؤشّر ممارسة التقية عند الفاعل الإخواني مرتفع، مقارنة بمؤشر ممارسة التقية عند المتديّن "السلفي الجهادي"، الذي لا ننتظر منه ممارسة التقية، على الأقل في مرحلة "التمكين"، بحسب الاصطلاح الإخواني؛ أي مرحلة الإمساك بزمام السلطة الحاكمة، كما عاينا، على سبيل المثال، في المناطق التي تحكّم فيها المشروع "الجهادي".

مؤشّر ممارسة التقية عند الفاعل الإخواني مرتفع مقارنة بممارسة التقية عند المتديّن "السلفي الجهادي" الذي لا ننتظر منه ذلك

واضح أنّ المتديّن الداعشي لا يمارس التقية، بينما الأمر مختلف، بشكل عام، عند المتديّن الإخواني، بل إنّ المأزق يطال حتى المتديّن الذي أخذ مسافة من الإسلاموية الإخوانية؛ بسبب ضريبة الانتماء، وبالتالي يعاني الشيء الكثير حتى يتحرر بشكل نهائي من التأثير المفاهيمي لأدبيات التربية الإخوانية، ومنها أدبيات التقية، فكيف يكون الأمر مع الذي ما يزال إخوانياً؟
لا يتعلق الأمر بالمتديّن الإسلامي الحركي، الذي ما يزال يتبنى هذا الخيار، أي ممارسة التقية؛ لأنّه تربّى عليها، فهؤلاء خارج دائرة الحوار وتأسيس أجواء الثقة، تفعيلاً لقاعدة "لا ثقة في كلّ مَن يُمارس التقية"، وإنما نتحدث عن الآثار السلبية للتربية على التقية، تلك الذي تعرّض لها متديّن إسلامي حركي؛ لأنه لا يُعدّ كذلك.

بمعنى آخر؛ حتى مع أخذ المتديّن الإخواني مسافة نظرية وتنظيمية من الخطاب والمشروع، فإنّه لن يتحرر من الآثار النفسية لمرحلة الانضمام بين ليلة وضحاها، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً في معرض الحديث عن المضاعفات السلبية للمرور على التجربة الإسلامية الحركية، ونقصد بها ضرائب المرور على تجربة إسلامية حركية، فموازاة مع النتائج الإيجابية للتجربة، من قبيل: تزكية الذات، والنهل من علوم دينية، والتفرغ لبعض الالتزام الديني، كما يُصطلح عليه، وجوانب أخرى، هناك الوجه السلبي للتجربة؛ وهو وجه متوقَّع، ضمن أيّة ضريبة تهمّ الانتماء إلى مشروع أيديولوجي ما، بصرف النظر عن طبيعية هذه الأيديولوجيا، كأن تكون دينية أو مادية، فهذا معطى ثانوي، أما المعطى الأصلي، فعنوانه ضرورة تأدية الضرائب، مع فارق أنّه في حالة الأيديولوجية الدينية، تكون الآثار مرتفعة؛ لأنّها كانت تنهل من المقدس؛ بل يعتقد أتباع الأيديولوجية أنّ رموزها تكاد تُؤخذ من كلامهم، ولا يُردّ، من قبيل ما نعاين مع أتباع التشيع في تعاملهم مع أعمال الخميني، أو أتباع التسلف في تعاملهم مع أعمال ابن تيمية، أو أتباع جماعة "العدل والإحسان" المغربية في تعاملهم مع أعمال عبد السلام ياسين، وغيرهم كثيرون (وجب التذكير هنا أننا نعاين الظاهرة نفسها مع أتباع هذا المشروع العلمي أو ذلك، من قبيل ما نعاين مع أتباع محمد أركون، أو حسن حنفي، أو طه عبد الرحمن، ...إلخ، مع فارق أنّ هؤلاء لا يقدّسون، وإن كانوا يبجّلون، ولكنهم مطالبون بالتحرر من سياق فكري مغلق، حتى لا يصبحوا مجرّد مقلدة لما يصدر عن المفكر المعني، دون أيّ اعتراض أو نقد فالأحرى النقض).

ما يزال إصرار العقل الإسلامي الحركي على ممارسة التقية أو الازدواجية، في مقدمة الأسباب التي تغذي غياب الثقة مع مجتمعات وأنظمة المنطقة، ونتحدث عن معضلة نظرية تميز الجهاز المفاهيمي الإسلامي الحركي بشكل عام، خاصة الجهاز المفاهيمي للمشروع الإخواني؛ حيث يعتقد -عن سذاجة أو حسن نية- أنّ ممارسة التقية، بهدف خدمة مشروعه السياسي، يمكن أن تساعده في حرق مراحل هذا المشروع، هذا إذا افترضنا جدلاً أنّ مآل المشروع، أي تأسيس "دولة الخلافة" مثلاً، مرحَّب به في الساحة، وهذا أمر خارج دائرة التفكير عند شعوب المنطقة، فالأحرى أنظمتها.

بين أيدينا مثال تطبيقي، يصبّ في هذا السياق، عنوانه ما يُصطلح عليه "الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي"، عند ثلاثة فروع للمشروع الإخواني في المنطقة، خلال الأعوام الأخيرة:
النموذج الأول: يتعلّق بما يصدر عن إسلاميي المغرب، وبالتحديد الإخوان المشاركون في العمل السياسي، من الذين يُصرّون في المقالات والدراسات والندوات على أنهم يفصلون بين العمل السياسي والعمل الدعوي، لولا أنّ هذه الدعوة تفندها مجموعة من الوقائع والأحداث، أقلّها ما نعاينه في تفاعل أتباع هذه "المَجَرة الإخوانية" (من فاعلين في الحركة الإسلامية، والحزب الإسلامية والنقابة والتنظيم الطلابي ونظيره النسائي والإعلام والكتائب الإلكترونية، ...إلخ)؛ حيث يُصبح الخطاب موحَّداً بين جميع هؤلاء، بلا أدنى تمييز بين الخطاب الدعوي والخطاب السياسي، ويمكن التأكّد من هذا المعطى عبر إطلالة سريعة على الحسابات الإخوانية في مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث نكتشف العجب العجاب من فرط هذا الإصرار الصريح على ممارسة التقية في الفترة الزمنية التي تمتدّ بين الاستحقاقات الانتخابية، مقابل التخلي عن التقية في مرحلة الاستحقاق.

 

ورغم دلالات هذه الوقائع التي لا ترتفع، ما نزال نقرأ بين الفينة والأخرى مقالات ودراسات لباحثين وإعلاميين من المشروع، تسلط الضوء على مغالطة فصل السياسي عن الديني في العمل الإسلامي الحركي، وواضح أنّ هذه رسائل موجهة للطمأنة الأمنية والسياسية وغيرها، ولكنّها غير ذات أهمية، من فرط التناقضات الصادرة عن هؤلاء.
النموذج الثاني: يتعلق بالحالة التونسية، وتلخصه مضامين حوار أجرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، مع زعيم ومؤسس ورئيس حركة "النهضة" الإخوانية، راشد الغنوشي، بتاريخ 19 أيار (مايو) 2016؛ حيث أعلن أنّ الحركة ستمر بمرحلة تغيير في تعاطيها مع الشأن السياسي، من خلال فصل المسارين "الدعوي" و"السياسي" أحدهما عن الآخر، والتحول إلى حزب مدني، مضيفاً: "نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية، فنحن نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المُسْلمة؛ نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي".

مباشرة بعد صدور الحوار، ستخرج بعض قيادات المشروع هناك، لتزكية ما أشار إليه الغنوشي، ومن ذلك، ما صدر عن عضو مجلس النواب عن الحركة، الصحبي عتيق، وجاء فيه: أنّ "فصل حركته النشاطَ السياسي عن الدعوي هو تطور طبيعي في واقع الحريات في تونس"، وأنّه "جاء لاعتبارات دستورية وقانونية في ظلّ دعم الدستور والقانون للمشاركة السياسية"، مضيفاً لأحد المنابر الإعلامية: "النهضة ليس لها علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، انتماءً وتنظيماً"، مؤكدّاً أنها استفادت ودرست تجارب جميع الحركات الإسلامية في معظم البلدان "لكنّها لم تقلد أيّة تجربة"؛ لأنّها "تجربة فريدة" (بحسب صحيفة "الخليج أونلاين"، عدد 23 أيار (مايو) 2016).

النموذج الثالث: يهمّ الحالة الإخوانية في فرنسا، عندما أعلن في غضون عام 2017 تغيير اسم المشروع الإخواني هناك، وعنوانه "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، إلى "اتحاد مسلمي فرنسا"، كما لو أنّ هؤلاء يمثلون فرنسا، بينما الأمر يتعلق بمنظومة إسلامية حركية، بمعنى منظومة لا تثمل إلا نفسها أولاً وأخيراً، على غرار أي مشروع إسلامي حركي، سواء كان دعوياً أو سياسياً أو قتالياً، ولا يمثل بالضرورة المسلمين في فرنسا، لأنّ هؤلاء لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي الحركي، وإلا حُقّ لإسلاميي تنظيم "القاعدة"، أو تنظيم "داعش"، الزعم بأنّهم يمثلون المسلمين، وهذا محال؛ لأنّ لا أحد من المسلمين بايع هذه المشاريع الدينية الطائفية (الدعوية والسياسية والقتالية).
واضح أنّ هناك عدة قواسم مشتركة بين هذه الأمثلة الثلاثة، ذات الصلة بالمشروع الإسلامي الحركي في نسخته الإخوانية حصراً، ومنها القاسم المشترك المتصل بارتفاع مؤشر ممارسة التقية في "سُلم التقية" سالف الذكر، وهذا تطبيق ميداني من تطبيقات هذا السُلم.

ثمة إصرار صريح على ممارسة التقية في الفترة الزمنية بين الاستحقاقات الانتخابية مقابل التخلي عن التقية في مرحلة الاستحقاق

ففي مضامين تقرير إخباري نشره موقع "الجزيرة"، بعنوان "مسلمو فرنسا لماكرون: لسنا كبش فداء لمشاكلك مع السترات الصفراء"، ومؤرخ في 27 نيسان (أبريل) 2019؛ نقرأ تصريحاً للباحث الإخواني نبيل الناصري، مع الصفة التالية التي أوردها الموقع، وهي "الأكاديمي الفرنسي والمحلل السياسي"، وجاء في مضامين التصريح؛ أنّه "لا وجود للإسلام السياسي في فرنسا [كذا]، بل إنّ الأمر مجرد فزاعة استخدمها ماكرون، مثل سابقيه من الرؤساء الفرنسيين السابقين، من أجل تحويل أنظار الرأي العام الفرنسي عن المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها البلاد، ومحاولة منه للالتفاف على مطالبهم المشروعة"، بينما واقع الحال، وهو واقع لا يرتفع بتعبير المناطقة، يُفيد أنّ نبيل الناصري هو فاعل إسلامي حركي عند متتبعي العمل الإسلامي في فرنسا، ويُعدّ من أهم مروّجي أعمال طارق رمضان في العالم الرقمي، وفي الندوات والمؤتمرات، ولكنّنا لا نقرأ أيّة إحالة على هذا الانتماء الأيديولوجي، فالأحرى الإحالة على هذه الارتباطات، وقس على ذلك لائحة من هذه الأمثلة في المنطقة العربية وأوربا.
هذه الأمثلة غيض من فيض، ولو استرسلنا في التوقف عند الأمثلة الخاصة بالحالة العربية، في العمل البحثي والإعلامي والتعليمي والسياسي والجمعوي، ...إلخ، فقد نصيب القارئ بحيرة من كثرة الإشارات والوقائع، ولكنّ الشاهد هنا؛ أنّ معضلة التقية، توجد ضمن الأسباب الموضوعية المغذية لغياب أجواء الثقة بين المشروع الإسلامي الحركي، وشعوب المنطقة ومعها أنظمتها.

مواضيع ذات صلة:

- المسلمون وموروث العقل المثير للجدل

- "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي".. أركون وكسر الأنساق المغلقة

- أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي

- الإخوان وبناء العقلية الخرافية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية