العنصرية والشعوب.. حين نسخر منها سنتجاوزها

العنصرية والشعوب.. حين نسخر منها سنتجاوزها

العنصرية والشعوب.. حين نسخر منها سنتجاوزها


16/10/2023

في نهاية السبعينيات، كنّا أطفالاً في مدينة بورتسودان، وككل أطفال المدن السودانية الكبيرة مثل: الخرطوم، واد مدني، كسلا، الأبيض، تكلمنا العربية الدارجة والفصحى كأطفال سودانيين نعرف تماماً أنّ هذه لغتنا؛ إلى درجة أنّ خيالاتنا الطفولية للصحابة الكرام من أمثال عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، رضي الله عنهما، كانت تتصورهم كشخصيات سوداء، مادامت لغتنا لغتهم وأسماؤنا تشبه أسماءهم!

ستظل المجتمعات أسيرة للتخلّف ما دام تعريفها للخير والسوء قائماً على لون البشرة

ورويداً رويداً عندما كبرنا وشاهدنا المسلسلات الدينية المصرية؛ نشأ لدينا لبس مسّ قناعاتنا السابقة فشككنا في أنّ يكون الصحابة أناساً يشبهوننا في ألوانهم!؟

وحتى ذلك الوقت، كنّا نتعجب أشد العجب، حين نسمع تلاوة القراء المصريين من أمثال الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، عندما يقرأون القرآن بطريقة "غريبة" لا تشبه قراءتنا العربية السودانية للقرآن والتي كنا نسمعها على لسان كبير مشايخ القراء في السودان الشيخ صديق أحمد حمدون يومياً عبر أثير الإذاعة السودانية، فبدت لنا قراءة القراء المصريين أقرب في أصواتها إلى أصوات المقامات الغنائية الشرقية (التي عرفناها فيما بعد) منها إلى التلاوة السودانية التي تعوّدت آذاننا عليها.

كانت تقاليد الاسترقاق تتصل بعلاقة القوة والسلطة وكان شرط الاستعباد يقع على الأبيض والأسود

هذه المقدمة ربما كانت ضرورية لوصف "الاغتراب" الذي يستشعره السوداني حين يهاجر خارج بلده ويغترب في البلاد العربية ـ لاسيما بلاد الخليج ـ لأن ما يحدث له، بعد ذلك، من إعادة تعريف جديد لـ"العرب" و"العروبة"، سيكون وقعه عليه كالزلزال حيال ما تمثّله من خزين الطفولة عن "عربيته" و"رموزها" و"شخصياتها" لتتزحزح قناعته يوماً بعد يوم، ويعيش حالة من انعدام الوزن في تعريف "هويته العربية"، وبخاصة لجهة الفارق الأساس؛ أي بين لونه الأسود -كناطق بالعربية- وألوان شعوب الدول العربية الأخرى التي تتجانس ألوانها في ميلها إلى البياض -مع بعض الأقليات السوداء في هذا البلد العربي أو ذاك- (لذلك بالضرورة سينصرف ذهن المشاهد العربي إلى السوداني، حين يشاهد "عثمان البوّاب" في الأفلام المصرية القديمة - مع أنّ عثمان هذا مصريّ نوبيّ من أسوان وليس من السودان)، ولكن هيهات أن يسلَّم ذلك المشاهد العربي بتلك الحقيقة التي سترسخ في لاوعيه حيال السودانيين، وهو يرى أبطال الفيلم المصريين واختلاف ألوانهم عن لون البوّاب النوبيّ!؟

اقرأ أيضاً: هل سواد البشرة مرادف للقبح وبياضها معادل للجمال؟!

وهكذا، حين نختبر هذه القضية اليوم، نجد أنّ مسألة اختلاف اللون هي التي تمثل العلامة الوهمية الفارقة في عملية إعادة التعريف تلك، للعرب والعروبة التي يكتشفها السوداني حين يعيش في الكثير من الدول العربية، وهي كذلك (أي قضية اختلاف اللون) التي ستنتصب كعلامة فارقة ودلالة واضحة لا لبس فيها على تخلّف المجتمعات العربية طالما ظل تعريفها للعرب والعروبة قائماً على اللون الأبيض، ونابذاً -في لاوعيها الجمعي- في الوقت ذاته، لعروبة سود آخرين فقط لمجرد اختلاف اللون!

يؤكد القرآن أنّ اختلاف ألوان البشر تماماً كاختلاف الألسنة يقتضي المغايرة لا المفاضلة

ومع غلبة المحتوى الإعلامي العربي في الفضائيات، عبر الدراما والتمثيل، إلى جانب الثورة الرقمية في المعلوماتية والاتصال وصلت تلك القناعة المضلِّلة حتى للسودانيين في داخل حدودهم؛ الأمر الذي أوقع الكثيرين منهم، تأثّراً بذلك المحتوى العربي في الفضائيات وغياب التمثيل السودانيّ فيه من ناحية، وطبيعة التخلّف في انطباع المجتمعات العربية التي تتمثل اقتراناً شرطياً وحسياً بين العربيّ وبياض اللون من ناحية ثانية؛ في ذلك "الاغتراب" الذي ذكرناه آنفاً، رغم امتلاكهم -كسودانيين- لعامّيتهم السودانية العربية التي لا يعرفون غيرها كلغة تجمعهم جميعاً بمختلف أعراقهم.

اقرأ أيضاً: اللغة العربية "السوداء"!

في تقديرنا، أنّ شرط التخلف العربي، تحديداً، والذاكرة الشعبوية التاريخية للمجتمعات العربية، التي لا تستطيع الفصل في انطباعاتها -إلا من رحم الله وهم قليل- بين اللون الأسود والعبودية (بالرغم من أنّه لا تلازم شرطياً بين الاثنين في الواقع التاريخي إذ كانت تقاليد الاسترقاق تتصل بعلاقة القوة والسلطة، وكان شرط الاستعباد يقع على الأبيض والأسود) هو الذي يجعل من رصيد الحسّ المسكوت عنه حيال اللون الأسود ما يشبه عازلاً في تعريفهم المتخلّف لهوية الإنسان العربي اليوم باللون الأبيض.

اقرأ أيضاً: "المسيح الأسمر" في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض

ويمكن القول إنّ تسوية قضية اللون ومفاعيلها في المجتمع العربي والسوداني هي جزء من صيرورة هذه المجتمعات في سباق المسافات الطويلة نحو دروب الوعي والتحضّر الإنسانيّ والأخلاقيّ.

والعلامة الاجتماعية/ الثقافية المعبّرة عن ذلك التقدم للقضاء على العنصرية اللونية بمستوياتها المختلفة وغيرها: هي؛ السخرية منها دون حساسية؛ فحين يسخر المجتمع بكل فئاته من تفاهة العنصرية ويستهجنها، دون أن يستدعي ذلك من الجانبين (سوداً أكانوا أم بيضاً)عراكاً وثاراتٍ وشتائم؛ ستكون تلك السخرية السويّة نتيجة لثلاث علامات فارقة الأولى: وجود ضمير أخلاقي إنساني حضاري عام؛ يضطر معه إحساس الفرد السوي لشعور ضاغط بالخزي والتفاهة الذاتية؛ إذا ما صدر عنه تعبير عنصريّ مشين ضد شخص أسود في لحظة جهل وحماقة.

تسوية قضية اللون بالمجتمعات العربية جزء من صيرورتها نحو دروب الوعي والتحضّر الإنسانيّ والأخلاقيّ

الثانية: عدم الاستحياء لدى جميع فئات المجتمع من الكلام عن واقع الظلم والاستعباد والعنصرية وكلّ أصناف الاعتداء العنصري الرمزي والفعلي -وبخاصة من جانب السود- لكشفه وفضحه أخلاقياً وإنسانياً.

والثالثة: تشريعات قانونية وجزائية نافذة ضد الممارسة العنصرية في الحياة العامة.

اقرأ أيضاً: الحب ينتصر على لون البشرة في "حارة السمران" بغزة

أما من حيث الحديث عن الألوان كعلامات للبشر في القرآن؛ فقد تم التعبير عنه ضمن الاختلاف الذي هو من جنس اختلاف اللغات (ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) وبحسب الآية القرآنية فإنّ اختلاف الألوان بين البشر تماماً كاختلاف ألسنتهم يقتضي المغايرة، ولا يقتضي المفاضلة ولا يعني تفوّقاً بالضرورة، ولهذا كان الخطاب هنا في هذه الآية موجّهاً للبشر (اختلاف ألسنتكم وألوانكم)، لكن إدراك قيمة هذا الاختلاف اللوني بمعناه الإنساني البسيط ـكما هو في الآية القرآنيةـ يصبح أكثر تعقيداً في تاريخ المجتمعات البشرية، و يحتاج إلى إيمان عميق بحكمة الخالق.

اقرأ أيضاً: لماذا قاطع نجوم عالميون شركة ""H & M السويدية؟

كما أنّ تأويل دلالة اللون الأسود كعلامة على الشرّ والسوء والظلم لا يعني أنّها منطبقة بالضرورة على مسألة اللون الأسود في البشر؛ بمعنى أنّه لا بد من ملاحظة الفرق في: أنّ استعارة السواد للدلالة على الشر والسوء والظلم كانت ناشئة من تأويل ظاهرة الظلام في المخيال الجمعي للبشرية الأولى وفي مجازاتها الدينية منذ عصور ما قبل الطوفان (فقد ثبت وجود تعبيرات عن اللون الأسود بنفس الدلالة في مجتمعات لم ترَ السود أبداً في حياتها، وفي لغات سوداء في شعوب أفريقيا السوداء ذاتها!

ظهور التعبير بالسواد على الظلام والشرّ أسبق من وجود السواد في الجسد البشري

وإذا أمعنّا تأمّلاً في حياة البشرية الأولى ما قبل الطوفان، وأدركنا، بحسب الأديان التوحيدية، أنّ ظهور كوش بن حام (وهو أول إنسان أسود في التاريخ البشري) كان ما بعد الطوفان، ألا يعني هذا أنّ ظهور التعبير بالسواد كدلالة على الظلام والشرّ في الوجود، هو أسبق من وجود السواد في الجسد البشري.

ثم ألا يمكننا من خلال ذلك الاستدلال على اعتبار تلك الاستعارة للسواد كدلالة على الشرّ في اللغة والمجاز الديني، إنما هي أقدم بكثير من ظهور اللون الأسود في الجسد البشري (زمن كوش بن حام) ما يعني أنّ استعارة السواد أخذت وجودها من ظاهرة الظلام للدلالة على الشر والسوء؟

اقرأ أيضاً: عنصرية جديدة في ذكرى لوثر كينج

في الأزمنة الحديثة طوّر السود وعياً مضاداً من خلال كتابات "فرانز فانون" و"والتر رودني" وغيرهما، ولكن لإدراكهم طبيعة التفاهة الذاتية للعنصرية ضد اللون الأسود؛ أي في كونها غير مبرّرة لا أخلاقياً ولا إنسانياً؛ أي كراهية الآخر واضطهاده لمجرد اختلاف اللون في الأصل؛ كان وعيهم المضاد يدرك تماماً أنّ الحل لا يكمن في تمثل عنصرية مضادة ضد البيض لمجرد اختلاف لونهم؛ وإنما تمثّلت حركة الوعي الأسود لديهم عبر تعريف السواد كدالة للاضطهاد المنظم الذي يقع ضد أي جماعة بشرية سواءً أكانت لونية أو جندرية أو عرقية.

الصفحة الرئيسية