الغوطة ممراً للغزاة والطغاة

الغوطة ممراً للغزاة والطغاة


25/02/2018

في الغوطة حياة على أنغام الموت، مشهد تكرّر خلال الأعوام الماضية كثيراً، ويتكرّر اليوم، رأيناه في حلب وحمص والزبداني وداريا والمعضمية. اختلفت الدول الكبرى على هدنة، بعد أن كانت اتفقت على جعل أجساد أبناء البلدة ممراً للغزاة والطغاة. وافقت روسيا على الهدنة أمس، يا لمجد الأباطرة!

في القصير التي خرج يوماً أمين عام حزب الله يعلن أنّ طريقه إلى القدس يمرّ منها، هناك اغتصبت النساء والبنات أمام الرجال، ثمّ أحرق الرجال أمام زوجاتهم وأبنائهم. في البياضة ذبح المدنيون ذبحاً، وقبلها المخيم، حيث قتل قاطنوه تجويعاً. هنا تخرج زفرة الآآآه من الروح لا من القلب.

ربّما لأنّني سورية، عايشت الثورة بكلّ أحداثها، منذ أن خرج أطفال درعا إلى أن خرج أهل دمشق، بل وشاركت في كثير من المظاهرات التي خرجت هاتفة "بدك ترحل وبدنا نعيش"، "يااالله مالنا غيرك يااالله"، "يا حلب نحنا معاكي للموت".. وغيرها.

خائن من يقتل شعبه

كاذب مفترٍ حاقد جاهل بل وقاتل، من يقول إنّ المتظاهرين السوريين حملوا أسلحة، أو أخذوا مبالغ مالية لقاء مظاهراتهم أو حراكهم، فما دفعنا للخروج إلا ما كنا نشاهده من ظلم وقهر وإذلال. فإذا تحدّثت عن دخول عناصر من يطلقون على أنفسهم "الجيش السوري"، وأي جيش يقتل شعبه ويذله ويقصفه، باقتحاماتهم لمنازل الدمشقيين، ليسرقوا وينهبوا ويعتدوا على النساء، ويضربوا الرجال أمام زوجاتهم وأبنائهم، فكيف أنسى مشهد أخي وهو يُضرب أمام زوجته وأطفاله وإخوته وأمه وأبيه، كيف أنسى كيف ضربه الجندي أمامنا للإمعان في إذلاله، كيف أنسى منظر أبي، ذي الستين عاماً، وهم يقتادونه ويستهزئون بحزن أمي وتوسّلاتها إليهم كي يتركوه، كيف أنسى حين أمسك أحدهم بأمي ودفعها في باحة المنزل. ولم يكتفِ أولئك المحتلون باقتياد كل رجل في المنزل حينها، بل سلبوا ما وقعت عليه أعينهم التي لا يشبعها حتى التراب، حتى بضع قطع نقود حديدية كانت في محفظة ابن أخي، الذي ببراءة الطفولة خاطب ذلك الأرعن وهو يخرب ويحدث الفوضى في غرفة أمّه قائلاً: "عمو لا تنكت ماما تعذبت وهي عم تشتغل، بعدين اشلح بوطك نحنا ما مندعس بالبوط عالسجادة".. فدفعه على الأرض دون أن يشفع له أنّه لم يتجاوز الخمسة أعوام.

اختلفت الدول الكبرى على هدنة، بعد أن كانت اتفقت على جعل أجساد أبناء الغوطة ممراً للغزاة والطغاة

هذا مشهد في منزل يقع في قلب العاصمة دمشق، ليس في الغوطة، وليس في حلب أو إدلب، وإذا أردت وصف ما كان يجري في البيوت الدمشقية حينها، فلن يكفيني البحر مداداً لذلك.

طبعاً يكفي دفع مبلغ مرقوم لأصحاب الوطنية، والغيورين على أمن الوطن، الذين كانوا يقتادون الإرهابيين لحماية الأمن، لكنّ الأمن كان يُشترى! فادفع ليخرج من تريد أن يخرج، إن كان حيًّا، وكثيرون دفعوا ليخرج أبناؤهم، وقابض المبلغ يعلم أنّ المعتقل ميّت!!! والحديث عن المعتقلين من الأهل والأصحاب والجيران وقصصهم الواقعية التي عايشناها رأي العين، حتّى لا يخرج متفلسف أو مدّع للعقلانية، ويقول إنّها فبركات إعلامية، جاءت من قنوات مغرضة.

الذاكرة تعجّ بالأحداث والمشاهد، والروح تئنّ بالآلام والأحزان، لكنّ الأصابع تعجز عن صقلها؛ لأنّه بعد كل تلك الأعوام يجب على آلام السوريين أن تترفع عن الظهور؛ لأنّ أحداً لم ينصفها، ولن ينصفها.

غوطة تغنّت بالحياة...تتغنّى اليوم بالموت

فعل الغناء لم يأتِ من خيالي، بل من خيال أحد "الفيسبوكيين" المؤيدين للنظام الطاغي، مع تحفّظي على كلمة "مؤيدين" فهم على حدّ قول الكثيرين منهم، يريدون سلتهم بلا عنب، ففي أحد المنشورات على الفيسبوك، أقرأ:

"أصوات اللي عم تطلع من الغوطة أجمل من أصوات ذا فويس"!!

وآخر يكتب: "المهم يلي متلكم يموتوا بالغوطة... مش مشكلة بيخلق غيرهم"!!!

كاذب مفترٍ حاقد جاهل بل وقاتل، من يقول إنّ المتظاهرين السوريين حملوا أسلحة، أو أخذوا مبالغ مالية لقاء مظاهراتهم

الذين يكتبون تلك العبارات لا ينامون أيضاً من أصوات المدافع والطائرات؛ أي إنّه ربّما ما يفصلهم عن الغوطة أمتار أو بضعة شوارع، أحدهم يقف على شرفته فيشاهد الدخان المتصاعد من الغوطة!! فلا تعليق.

منذ خمسة أعوام، في 21 آب (أغسطس) 2013، اليوم المنحوت في روح السوريين، وروح أهل الغوطة الشرقية، يومها تنفّس أهل الغوطة الموت عقب قصفهم بالكيميائي؛ حيث وصل أعداد الضحايا حينها 1429 شخصاً، وفق تقارير أجهزة الأمن الأمريكية، والمخجل أنّ الاستغباء العالمي ما يزال إلى الآن يتحدّث عن شكوك في الطرف الجاني، فلعلها فصائل المعارضة قصفت نفسها وأطفالها وعائلاتها بالغاز السام!!

الموت الأصفر

تلك المجزرة التي لم يتخيّلها الناجون منها، ومنهم من قال إنّه مستغرب لأنّه لا زال حياً بعد يوم الموت ذاك، يوم الموت الصامت، بلا دماء، أو أشلاء، أو جروح، موت أصفر مكفهر أكثر من أيّ موت آخر، يوم لبست فيه الغوطة الشرقية الأبيض أكفاناً بدل الأخضر الذي لطالما تغنّى به أهلها.

مجزرة لم يتخيّلها الناجون منها، ومنهم من قال إنّه مستغرب لأنّه لا زال حياً بعد يوم الموت ذاك

ولم يكن يوم الموت الوحيد، فمنذ ذلك الوقت والغوطة الدمشقية، على موعد مع القصف والموت، وتعاني آلام الجوع والمرض والتشوّهات، أبناء يقتلون أمام أعين أمّهاتهم، وأمهات يدفنهن أطفالهن، وأطفال لم يبقَ لهم أمّ أو أب أو معين.

وها هو الوحش ينقضّ على الغوطة من جديد، يدمّر ويقتل ويحرق، بكلّ ما أوتي من أسلحة إيرانية روسية أمريكية، وطيارين سوريين وروسيين ومرتزقة، ينقض على الغوطة الغنّاء، لتعلو أصوات الموت فيها فوق صوت الحياة، وأصوات القهر فوق صوت القوة.

ومن الخارج تقابلها أصوات الخذلان والتردّد والتأرجح، فهل سيموت هؤلاء في ظلّ الصمت والمساومة العالمية، ليُخلق آخرون، وإن جاء آخرون هل سيستنشقون رائحة الأرواح التي زهقت في ذلك المكان، هل سيسمعون صوت ذلك الطفل الذي مات هناك وهو يقول "سأخبر الله بكلّ شيء"؟!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية