الفنان محمد نصر الله: المخيم علّم ألواني الحب والحرية

الفنان محمد نصر الله: المخيم علّم ألواني الحب والحرية

الفنان محمد نصر الله: المخيم علّم ألواني الحب والحرية


25/02/2020

أجرت الحوار: رشا سلامة


قلّما تكون فلسطين حاضرة في نتاج مبدع ما، بشكل كامل غير منقوص البتة، كما يحدث لدى الفنان التشكيلي، محمد نصر الله؛ إذ لا تكاد الذاكرة تحصر له عملاً واحداً لا يستحضر فيه فلسطين، بدءاً من الألوان التي تحاكي الجغرافيا الفلسطينية، مروراً بمحطات القضية الفلسطينية تاريخياً، وليس انتهاءً بأسماء معارضه وحديثه هو نفسه عن نتاجه.

اقرأ أيضاً: التشكيلي السوري لؤي كيالي: الرائي الذي اختطفته النيران

حياة نصر الله، المولود عام 1963، في مخيم الوحدات في الأردن، لأبوين هُجّرا من قريتهما المقدسية "البريج"، مرتبطة كذلك، بتفاصيلها كلّها بالقضية الفلسطينية؛ إذ لا تكاد عبارة واحدة لنصر الله، أو لفتة، أو موقف تواصل اجتماعي يخلو من ذِكر فلسطين.

كنت في المخيم أمشي وأنا أسمع جوقة موسيقية صامتة حولي لم تتوقف في يوم عن الغناء للحبيبة الغائبة فلسطين

يقول محمد نصر الله إنّه تمرّد على قيود الوظيفة ولم يحتمل محدّداتها، كما أطلق لنفسه العنان، طوال الأعوام الماضية، للخروج عن دوائر المألوف والمتوقَع، فأقام معرضه الثاني "أناشيد التراب 2" بينما كانت حرب الخليج تقرع طبولها، رغم تحذيرات كثيرين له من أنّ الوقت غير مواتٍ لهذا، كذلك هو محمد نصر الله، الذي لم يدرس الفنّ التشكيلي ضمن قوالب معلّبة، ولا تتلمذ على يد أستاذ بعينه، ولم يُحسب على مدرسة محدّدة، تماماً كما أراد طوال حياته.

كان لـ "حفريات" هذا الحوار مع الفنان التشكيلي، محمد نصر الله، الذي درسَ الفنون في معهد الفنون الجميلة، كما حصل على دبلوم فيها من المركز الثقافي الإسباني في عمّان، والذي يعكف على مشروع جديد، عنوانه الأبرز فلسطين، كما هو دأبه دوماً.

- بعد مرور هذه الأعوام، التي أمضاها محمد نصر الله بين المخيم والفنّ الذي ما برح المخيم؛ هل ثمة شعور باليأس من طول المسافة؟ تبدو الدرب طويلة جداً نحو التحرير، وتحديداً على ضوء المعطيات الأخيرة، هل تعِب نصر الله؟

أدين بكلّ شيء للألوان والمخيم؛ ذلك أنّه علّمني الحب والحرية، رغم عتمة هذا الكون المليء بالهموم والأحزان، ولم أتعب يوماً؛ بل بقيت طفل المخيم الصغير الذي لم يبلغ سنّ الرشد بعد؛ أحبو على عتبات بيوت المخيم وأتعلّم كلّ يوم.
مخيم الوحدات كان أكبر من قصة، وأكبر من رواية، لقد حمّلني المخيم بتجارب كثيرة منذ طفولتي، وهي التجارب التي ما أزال أتتلمذ على يدها حتى هذه اللحظة.

اقرأ أيضاً: تشكيلي أردني يرسم "فاكهة الجنة" ويحتفي بموائد الطبيعة الصامتة
لطالما كنت في المخيم أمشي وأنا أسمع جوقة موسيقية صامتة حولي، وهي الجوقة التي لم تتوقف في يوم عن الغناء للحبيبة الغائبة فلسطين.
لم أتعب، ولم يتراجع أملي يوماً ما في أنّ الحرية قريبة جداً، هكذا تبشّر اللوحة.

-  تبدو الحرية منظومة متكاملة لدى محمد نصر الله؛ إذ لم تقف عند حدود فلسطين، بل لطالما كان أحد المبدعين الذين لم يرضوا بتكبيل ذاتهم بقيود وظيفية؛ إلى أيّ مدى وجدت هذا قراراً مريحاً صائباً أو صعباً؟

لا أحتمل الحياة الوظيفية، بكلّ قيودها الزمنية؛ لأنّها مقتل للمبدع؛ لهذا تركتها مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأخذت قراراً بأن أتفرّغ للفنّ، وما يزال هذا القرار معمولاً به لديّ حتى اللحظة.
الفنّ متنفسي الوحيد في هذا العالم، ولست حزيناً؛ لأنني وجدته سبيلاً لنفسي، ووجدته ملاذاً من هموم الدنيا كلها، وميداناً واسعاً أترافع فيه عن فلسطين وأتحدث فيه عن حياة المخيم، لم أخسر شيئاً، على العكس، ربحت لوناً لأتنفس منه وأطلّ على العالم كيفما أريد.

اللوحة التي لا تفيض حرية فاشلة إنسانياً على مستوى الفنّ وعلى مستوى الرؤية في أيّة بقعة من بقاع العالم

لطالما وضعت نصب عينيّ أني أريد حياة تشبهني، لا حياة على مقاسات الآخرين ورغباتهم وتوقعاتهم، وكان لي هذا.
وقد تمرّدت على القوانين والمتوقع منذ زمن طويل، لم أتلقّ الفنّ على يد أستاذ بعينه؛ لذا لست متأثراً بأحد، ولم أُدرِج ذاتي تحت تصنيف أيّة مدرسة في الفنّ التشكيلي، بل أطلقت العنان لذاتي، وحتى حين قرعت حرب الخليج طبولها، وكنت بصدد إقامة معرضي الثاني "أناشيد التراب 2" نصحني من حولي بالتريّث؛ لأنّ الوقت غير مواتٍ، لكني لم أستمع لهم، بل اعتقدت أنّ الحرب لن تحول دون تذوّقنا للجمال والاحتفاء به.
ذات مرة، كنت قد حضّرت لمعرض جديد ثلاثين لوحة، لكني بمجرد أن اهتديت لما يعبّر عني أكثر في لون اللوحة وملمسها، نسيت الثلاثين لوحة وانطلقت لتجربة جديدة مع اللون والتشكيل، لطالما أردت أن أكون هكذا: حراً من أيّ قيد قد يكبّلني، إن كان لا بدّ من قيود، فليرسمها الفنّ، لا الإنسان؛ ذلك أنّ الفنّ لا يمنح العالم إلا جمالاً، أنت هكذا كمن يضع العهدة في اليد الأمينة.

-  يرى كثيرون أنّ الإفراط في الغموض والرمزية في اللوحة، كما في باقي ضروب الفنون، قد يفضي لقلة إقبال الجمهور على الفنّ التشكيلي والإبداع عموماً؛ ما رأيك؟

اللوحة التي لا تفيض حرية فاشلة إنسانياً، على مستوى الفنّ وعلى مستوى الرؤية في أيّة بقعة من بقاع العالم.
ولهذا السبب، ليست لديّ مشكلة مع الجمهور بكافة فئاته؛ فحضوره لم يقلّ منذ انطلاقة تجربتي؛ لأنني أرسم ما يحدث داخلي، وأنقل قضايا شعبي والناس، رغم الرمزية.

اقرأ أيضاً: آدم حنين.. فنان تشكيلي يحول منزله إلى متحف
لهذا، لا بدّ من الحرية، ولا بدّ من ترك هامش حرية كبير للفنان، فليترك الكلّ متسعاً للفنان حتى يعبر عما يجول بداخله بالطريقة التي يراها صائبة فنياً وإنسانياً وإبداعياً، لكلّ تجربة تفاصيلها السرية، بدءاً من اللون؛ لهذا حين أرسم يحملني اللون بعيداً، ومنه أبدأ كلّ مرة مشروعي الفني، وأدخل في تفاصيل العمل وأجوائه ولا أفكر البتة فيما يتوقعه الآخرون وما يريدونه.

- الفنان التشكيلي محمد نصر الله هو شقيق الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله؛ هل ثمّة تعاون قد نشهده بينكما، يتجاوز حدود أغلفة روايات إبراهيم الممهورة عادة باسمك؟ ويحيلنا هذا لسؤال حول جديدك الذي تعكف عليه.

ربما يحدث هذا يوماً، فالذي يجمعنا كثير؛ فلسطين ومخيم الوحدات والانحياز للحرية والجمال، لقد عبّر كلّ منا عن مفاصل كثيرة في القضية الفلسطينية، كلّ بأدواته؛ إبراهيم بالكلمة وأنا باللون، وأحسب أنّ كلّ واحد منا عبّر بما يراه مناسباً وقوياً وممثلاً له ولما يشعر به.

لم أتلقّ الفنّ على يد أستاذ بعينه؛ لذا لست متأثراً بأحد، ولم أُدرِج ذاتي تحت تصنيف أيّة مدرسة فنية

أؤمن بأنّ للوحة خصوصيتها، وأنّها حتى حين تترجم ما قالته قصيدة، فإنّ عليها منح القصيدة مزيداً من الألوان والأطياف والتفسيرات والمعاني.
ما أعكف عليه هو مشروع فني جديد، يعدّ استمراراً لما بدأت به منذ تفتحت عيني على الفنون، ومنذ لامس المخيم وعيي؛ ما أزال أتعلم وأجرّب وأختبر كلّ شيء بمتعة ودهشة، كما لو أنّها المرة الأولى، وستكون القضية الفلسطينية وما رافقها وحفلت به من تجارب إنسانية غنية هي زادي في هذه الرحلة الطويلة والممتعة، بقدر ما تبعث على الحزن والأسى في مرات؛ ذلك أنّني أتمنى لو كانت فلسطين حرة وخلّدنا هذه الحرية في اللوحات، عوضاً عن كلّ هذا الإرث الذي ما وسمه شيء بقدر الألم؛ لذلك أسعى في مشروعي الجديد إلى إكمال ما بدأته منذ أعوام، تاركاً للون والإحساس العنان ليقوداني حيثما يريدان، وحتى الإطار الزمني الذي تفرغ فيه هذه اللوحات متروك للشعور.
حين أشعر بأنني عبّرت عن كلّ ما يعتمل في داخلي، في هذه الفترة، أكون قد فرغت.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية