الكنيسة القبطية في مصر: حضور ممتد يجسد التاريخ الاجتماعي للبشر

مصر

الكنيسة القبطية في مصر: حضور ممتد يجسد التاريخ الاجتماعي للبشر


08/11/2018

تحفل الكنيسة القبطية بسمات مميزة وخاصة، في التاريخ المصري، شكل لها هويتها، وترك أكثر من أثر في بنيتها المعمارية، وجماليات الشكل الخارجي والداخلي لها، والذي يعبر من خلال رموزه الغنية، عن دلالات دينية وروحانية متعددة؛ تتصل بالفداء والخلاص، في شكل الصلبان الخشبي، أو البناء الدائري لبعض الكنائس الأخرى، وترمز للأبدية.

اقرأ أيضاً: "الإخوان" والأقباط
ويضاف إلى ذلك، الأيقونات الخاصة بالقديسين والشهداء، وصور الرحلة المقدسة وولادة المسيح والسيدة مريم العذراء، التي تتزين بها الجدران والأسقف في كل مكان، تبعث بألوانها وخطوطها مشاهد للعظة والتبرك والسلام.
إحدى كنائس مصر القديمة

الكنيسة القبطية وشخصية مصر
تعد الكنيسة ذات حضور ممتد، يعود لأكثر من تسعة عشر قرناً في مصر؛ وفي ظل هذا التاريخ المتراكم، الذي بدأ منذ الحكم الروماني لمصر، في عهد مارمرقس الرسول الذي وصل إلى الإسكندرية، فانتشرت المسيحية بواسطته، وجاء بناء الكنيسة وفق تعاليمه المباشرة، تنوعت مساهمات الكنيسة وتأثيراتها على مستويات متفاوتة، سواء من الناحية اللاهوتية، والجدل مع الكنيسة الكاثوليكية، في روما، خاصة، مجمع نيقية الذي ترأسه أحد أباء الكنيسة، وهو البابا أثناسيوس؛ حيث كان لمدرسة الإسكندرية المسيحية شخصيتها المتميزة، أو من ناحية رفض الخضوع السياسي للإمبراطورية الغربية وسلطة روما، ومن ثم، تبعيتها الدينية لها، وهو ما ظهر جلياً في مجمع خلقيدونية.

فنّ الأيقونة هو تعبير تصويري لموضوعات دينية تصور بوفاء ملامح اللاهوت القبطي فتبرز صورة المسيح أو بعض القديسين

ومن بين العوامل التي ميزت المسيحية في مصر، والشخصية القبطية، على حد سواء، نشوء فكرة الرهبنة، في أواخر القرن الثالث، حيث كان الأنبا أنطونيوس، أول راهب مسيحي في العالم، وعاش في صعيد مصر، وكذلك الأنبا باخوميوس، الذي يعود إليه وضع الأسس الأولى لنظام الرهبنة، ما أدى إلى ظهور مئات الأديرة، وآلاف القلالي والكهوف، في مختلف أنحاء مصر، التي انتشرت بكثرة بالتزامن مع ازدهار نظام الرهبنة، في نهاية القرن الرابع.
ما هي "مدينة الله؟"
اشتقّت كلمة كنيسة، وهي يونانية الأصل، من "إكليسيا"، وتعني اجتماع مجموعة من الناس المدعوين لغرض واحد في مكان محدد، وجاء استخدامها في اليونانية بمعنيين؛ الأول، يعبر عن اجتماع الساسة للبحث في القضايا المدنية، والثاني، يعبر عن الاجتماعات الدينية.

اقرأ أيضاً: استهداف الأقباط بالمنيا.. ما دلالات التوقيت؟
تتفاوت الأشكال التي تتجسد من خلالها الكنيسة، من حيث شكلها وإطارها المعماري الذي تتهيأ من خلاله؛ حيث تأخذ شكل الصليب، الذي يعبر عن طبيعة الكنيسة، كرمز للصليب الذي افتدى عليه المسيح البشر، وهو شكل نادر في كنائس مصر، كما يوضح روبير الفارس، في كتابه: "مباني من بخور"، وهناك الشكل الدائري، الذي يفصح عن الطبيعة الأبدية للكنيسة، فالدائرة تمثل خطاً لا بداية أو نهاية له.

اقرأ أيضاً: دمشاو تعيد مآسي الأقباط مع المتطرفين
بيد أنّ الشكل الذي تنتصب من خلاله الكنيسة المصرية، هو شكل السفينة، باعتبارها سفينة النجاة، وأحد الرموز التي تحتوي عليها هو فلك نوح. وبحسب القديس أوغسطينوس فإنّ "الفلك بلا شك هو رمز لمدينة الله في رحلتها عبر التاريخ، وهو رمز للكنيسة التي خلصت بالخشبة".

 كنيسة العذراء بضاحية الزيتون

أجراس وتسابيح
تتواجد الأجراس في الكنائس، والتي تعلق أعلى منارة الكنيسة، منذ القرون الأولى للمسيحية، وتتنوع أدوارها واستخداماتها، فهي تستخدم بهدف تنبيه الأقباط بوقت دخول وخروج الكهنة، وتنظيم مواقيت وشؤون العبادة المختلفة، وتحثهم على التسبيح، بالإضافة إلى الأبواق التي سبق استخدامها، قبل استبدالها بالأجراس، في الأعياد والعبادة، وتتفاوت دقات الجرس الكنسي، في تعبيرها عن الفرح أو الحزن أو الصلاة، وتختلف نغماتها مع كل مناسبة، بما يطابق خصوصية كل حالة.

اقرأ أيضاً: خالد منتصر ملاحق قضائياً بسبب رفضه تكفير الأقباط
ففي الأعياد وأيام الآحاد، لا تصدح الأجراس إلا بالفرح، وفي بداية القداس، عند وفاة شخص ما، تتسلل نغمات تبعث بالشجن والحزن.
ثمة أدوات موسيقية، تستخدمها الكنيسة في مناسبات دينية واحتفالية عديدة، بهدف ضبط الألحان الكنسية، أبرزها الصنوج والدفوف، وهما عبارة عن قطعتين مستديرتين من المعدن، ومقعرتين إلى الخارج ومن الوسط، وهناك التريانتو، وهو مثلث معدني من الحديد، ويقرع بقضيب صغير من الحديد.

اقرأ أيضاً: بالحزن والفرح.. الأقباط يزفّون رفات أبنائهم في مطار القاهرة
ويوضح أبانوب يسري، وهو رسام مصري، مهتم من خلال فنه، برسم جداريات الكنائس، أنّ صور السيد المسيح والسيدة مريم العذراء، والقديسين، والأيقونات المقدسة، التي تتزين بهم الكنائس، تعد إرثاً مسيحياً، حسبما قال لـ"حفريات"، ما يعكس قيمها الروحانية، ويمارس دوره الإيماني في وضع صلات حية، بين المؤمنيين وسير السابقين عليهم، ما يبعث داخلهم طمأنينة وسلام، ويصهرهم في كتلة إيمانية قوية.
سيرة مرئية تبعث القوة والسلام
كما أنّ القصص الديني، المذكور في الإنجيل، كمثل الرحلة المقدسة، وولادة المسيح، والمشاهد المختلفة التي تكونت في ظل الأحداث المتلاحقة، والتي ذكرها الإنجيل، يظل الرحم الذي تتشكل داخله الإرهاصات الأولى للرسومات الفنية، بالنسبة لـيسري، ويستلهم منها خطوطه الأولى، حتى تتحول إلى سير مرئية، تخاطب حواس المؤمن المباشرة ووجدانه الداخلي.

 أجراس إحدى الكنائس

تكاد لا تخلو الكنائس المصرية من الأيقونات، وتعج جدرانها بتلك القطع الفنية المتناثرة في كل مكان؛ فهي إلى جانب حضورها الجمالي، تعيد كذلك صياغة الموضوعات الدينية وبناءها، من خلال تكثيفها في ظل البناء الفني الجديد، بخطوطه وألوانه المميزين.

تراث فن التصوير المسيحي يتصل في أحد وجوهه بالعصر الفرعوني الذي اخترع التصوير في وقت مبكر

تتعدد المواد المستخدمة في رسم الأيقونات، سواء بالنقش على الحجر أو الرسم بالألوان على اللوحات، فيما برزت في الآثار القبطية مشاهد حقيقية، وثّقها الكتاب المقدس، وتتصل بتاريخ المسيحية، ومعجزات المسيح، مثل موقف شفاء الأعمى، فضلاً عن بعض الأحداث المهمة والمفصلية، التي ترمز وقائعها لدلالات القداسة والتضحية والفداء والشجاعة والخلاص، ومن بينها، العشاء الأخير للمسيح مع حوارييه.
ويعد القديس لوقا البشير، من أوائل الشخصيات القبطية التي برزت في مجال رسم الأيقونة المقدسة، وكانت أيقونة القديسة العذراء مريم وهي تحمل السيد المسيح طفلاً، باكورة أعماله. يعتبر البابا كيرلس الأول، هو أول من سمح بوضع الأيقونات، في المقر البابوي، عام 420 ميلادية.

اقرأ أيضاً: الأقباط والتوازن الصعب.. من عبد الناصر إلى السيسي
وبحسب العديد من المؤرخين والباحثين في الشأن القبطي، فإنّ تراث فن التصوير المسيحي، يتصل في أحد وجوهه بالعصر الفرعوني، الذي اخترع التصوير، في وقت مبكر، واعتماد التصوير بالطريقة التقليدية، عبر الاستعانة بألوان الأكاسيد، وذلك على الحوائط المغطاة بطبقة من الجبس.
وبحسب مجلة التراث الأرثوذكسي، فإنّ فنّ الأيقونة، هو بمثابة تعبير تصويري لموضوعات دينية، تصور بوفاء ملامح اللاهوت القبطي، فتبرز صورة المسيح، أو بعض القديسين، أو تظهر حدثاً تاريخياً من حوادث الكنيسة، والكتاب المقدس.

اقرأ أيضاً: بن سلمان يدعو بابا الأقباط لزيارة السعودية
وبحسب دراسة منشورة في مجلة التراث، تطلق كلمة أيقونة، فقط، على الرسومات ذات الطابع الروحي، والتي تعكس حقيقة إلهية، وما عداها فهي لوحات وفنون شعبية.
ومن ناحية أخرى، فالأيقونة نافذة على "العالم الآخر"، حيث لا سيطرة للزمان والمكان، ولهذا تبدو الخطوط في الأيقونة غريبة بعض الشيء؛ لأنها لا تنقل صورة كالفوتوغرافيا أو الفن الطبيعي؛ كما أنّ النور الإلهي يطرد ظلّ كل خطيئة، وبالتالي، تستخدم الأيقونة البعدين بدون ظلال، وتبرز الأيقونة حضور الله بين الناس؛ إذ تؤدي دوراً تعليمياً وإعلامياً مؤثراً، وترسخ الخبرة الحقيقية للرؤيا الداخلية حين نراها مصورة أمامنا.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية