اللغة العربية حبيسة في صورتين للعروبة

اللغة العربية حبيسة في صورتين للعروبة

اللغة العربية حبيسة في صورتين للعروبة


21/11/2023

تريد هذه المقالة أن تسلط الضوء على مسألتين أساسيتين: أولاهما مسألة التوتر والتنابذ بين التعليم الديني والتعليم العلماني، في البلدان العربية وفي مهاجر العرب وملاجئهم، ولا سيما البلدان التي يكون فيها الدين أحد مصادر شرعية السلطة. والثانية؛ مسألة الاندماج الاجتماعي الطوعي والانفتاح الثقافي والتشارك الحر في إنتاج الحياة الإنسانية وإنتاج المعرفة، سواء في البلدان العربية ذاتها أو البلدان التي يقصدها بعضٌ من العرب اختياراً أو اضطراراً؛ فاللغة هي المدخل الرئيس للاندماج الاجتماعي الطوعي والانفتاح الثقافي والتشارك الحر في إنتاج الحياة وإنتاج المعرفة، وفي ترسيخ مبادئ المواطنة المتساوية، على الصعيدين؛ الوطني والعالمي.

ينبثق من المسألتين سؤال مفصلي: هل الاندماج الاجتماعي الطوعي والانفتاح الثقافي والتشارك الحر في إنتاج الحياة وصونها وتنميتها، ومن ثم، في إنتاج المعرفة، يصب في مصلحة العرب والعروبة، سواء في بلدانهم أو في البلدان المضيفة، أم العكس، كما يرى المغرمون بالخصوصية والخصوصيات المقطوعة عن أي عمومية؟

اقرأ أيضاً: هل اللغة العربية في طريقها للانقراض؟

نطرح السؤال، بهذه الصيغة لاعتقادنا بأن بواعثَ الاندماج الطوعي وشروطَه وآلياتِه هي ذاتُها في الحالين، ولأننا ضد سياسات الدمج القسري أو الاندماج من طرف واحد، لأي سبب من الأسباب وأي ذريعة من الذرائع، ونعتبر أن شرط إقدام العرب؛ المهاجرين أو اللاجئين، على اللغة والثقافة الفرنسيتين أو الألمانيتين، على سبيل المثال، هو انفتاح الفرنسيين أو الألمان على اللغة العربية والثقافة العربية، وأن في هذا وذاك مصلحة مشتركة للطرفين. (ينطبق هذا على العرب والكورد وغيرهم من الأقوام، في سوريا، على سبيل المثال، سواء في ظل دولة مركزية أو في ظل دولة فيدرالية، لا نزال نعتقد أنها أقرب إلى الديمقراطية).

وإذ لا يمكن فصل اللغة عن المعرفة والثقافة، نعتقد أن اللغةَ، في ذاتها سلطة وأداة سلطة؛ فلا بد من التفريق بين هذين المستويين، لتحرير اللغة من براثن السلطة والحد من سلطة الأقوى؛ أي سلطة الأغلبية اللغوية -المعرفية- الثقافية وتسلطها على لغات المغلوبين وثقافاتهم، علاوة على ما ينعكس على أي لغة من التفاوت الاجتماعي (الطبقي)؛ إذ نجد في أي مجتمع لغتين: واحدة مصقولة، أنيقة وجهيرة وغازية أو متفوقة، وأخرى هامشية، خفيضة وحبيسة وهشة، لا تجهر، إن جهرت، إلا غضباً. (الأغلبية من الغُلب والغَلَبَة، تقول العامة: "فلان كثير غلبة"؛ أي إنه يحشر أنفه في ما لا يعنيه، ويتطاول على من يعتقد أنهم دونه، ويمد يده إلى ما ليس له، فما بالكم بمن يتغلب وينتصر في "المعارك"!)

للعروبة في عصرنا صورتان متكاملتان صورة العروبة الإسلامية وصورة العروبة القوموية

قد تظن القارئة أو القارئ أن المسألتين المشار إليهما، فوق، مختلفتان، وكل منهما مستقلة عن الأخرى، وهذا صحيح من جانب أو آخر، لكن الارتباط الوثيق بينهما يتأتى من كون التعليم الديني عقبة من العقبات التي تحول دون الاندماج الاجتماعي والانفتاح الثقافي والتشارك الحر، لا لأنه يعمق الحواجز الفاصلة بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، في المجتمع المعني، فقط، بل لأنه يصدُّ المعرفة العلمية، التي يتشاركها البشر كافة، فتتماهى المعرفة والهوية، نعني المعرفة التي قوامها اللغة، والهوية التي قوامها الدين أو العرق. من هنا أتت خرافة "العقل العربي" و"العقل الإسلامي"، و"العقل الغربي" أو "العقل المسيحي"، أو العقل السني، البياني – البرهاني، والعقل العرفاني (الشيعي)، "المستقيل"، حسب تصنيف محمد عابد الجابري.

ليس صحيحاً، على الإطلاق، أنّ الدين لا يناقض العلم، وأنّ العلم لا يناقض الدين، لكن الصحيح أنّ الناس أحرار في اختياراتهم، والصحيح أنّ التعليم الديني شأن من شؤون المؤسسات الدينية، وليس شأناً من شؤون الدولة الحديثة، ناهيكم عن الدولة الديمقراطية.

اقرأ أيضاً: اللغة العربية "السوداء"!

نقول هذا لأن للعروبة، في عصرنا، صورتين متكاملتين، تنعكسان على اللغة العربية، وتشلَّان طاقتها الإبداعية: صورة العروبة الإسلامية (التمييزية والإقصائية، على جميع الصعد)، كعروبة الإسلامويين ومن لا يفرقون بين العروبة والإسلام، أو يفترضون تلازماً بينهما، من جهة، وصورة العروبة القوموية، الأيديولوجية – السياسية (التمييزية والإقصائية، على جميع الصعد)، كعروبة الأحزاب القومية، ولا سيما حزب البعث العربي الاشتراكي، حيثما وجد، وحيثما ترك آثاره العنصرية، من الجهة المقابلة.

القواسم المشتركة بين هاتين الصورتين والخصائص المشتركة بين التصورين تجعل من اللغة العربية، بمفرداتها وتراكيبها، بدوالِّها ومدلولاتها، لغة تمييزية وإقصائية، قل عنصرية واستعلائية، علاوة على ذكوريتها. هذه الخصائص تحول دون تبلور صورة ثالثة للعروبة، تعبر عن الممكنات المعرفية والأخلاقية للعرب، هي صورة العروبة الإنسانية، المؤسسة على وحدة الفرد (العربي) والنوع (الإنساني)، والتي تتجلى إرهاصات تشكُّلها في نتاج قلة من المبدعين العرب، في مختلف المجالات، ممن يحطمون أصنام اللغة، الدينية منها والإثنية، ويهزون أعمدتها الذكورية.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى اللغة التي يتشارك فيها شعوب العالم كافة

نتحدى الإسلامويين (لا المسلمين) والقومويين (لا القوميين = الوطنيين) أن يأتوا بآياتهم (أدلَّتهم) على أي لمحة إبداع وابتكار من إنتاجهم، مما "يمكث في الأرض وينفع الناس"، على أي صعيد من الصعد، منذ تصدروا المشهد الثقافي البائس والمشهد السياسي الكارثي، سوى صف الكلام والشروح على المتون والتفريع على الأصول ومحاكاة الموتى، على الصعيدين: المعرفي والثقافي، وفنون التسلط والاستبداد والعنف والإرهاب، على الصعيدين السياسي والأخلاقي.

فلا يمكن تلمس واقع اللغة -المعرفة- الثقافة، في بلدان "شرق المتوسط"، على الأقل، بمعزل عن سياسات النظامين البعثيين: في العراق وسوريا ومآلاتها، ودور الأول في الكويت والثاني في لبنان، وطبيعة النظم التعليمية والمؤسسات الثقافية و"العلمية" والإعلامية فيهما، وبمعزل عن طبيعة القوى "الإسلامية"، التي ناهضتهما، وسياسياتها أيضاً. فقد كانت اللغة، بدوالِّها ومدلولاتها من أمضى الأسلحة في أيدي هذين النظامين وهذه القوى، فلم يصبح العرب، ولم تصبح اللغة العربية مجرد "ظاهرة صوتية" لقطعان بشرية (جماهير)، وهذايانات ثورية إلا مع بدايتهما وفي مسارهما. تكفي دليلاً على ذلك الكتب التي دُبِّجت في صدام حسين وحافظ الأسد والقصائد التي تمجَّدَ أصحابُها بمديحهما، والكتب التي ضمت أقوالهما، و"نهلت من فكرهما".

التعليم الديني عقبة تحول دون الاندماج الاجتماعي والانفتاح الثقافي والتشارك الحر

صحيح أنّ كلمات اللغة المنطوقة أصوات بشرية، ولكن لا قيمة للصوت البشري ولا معنى له، بل حتى لا وجود اجتماعياً وإنسانياً له بدون أذن / آذان تسمعه وفاهمة / أفهام تدرك معناه أو دلالته، وإلا لأغنت الإشارات عن الكلمات، (مع أن الإشارات لا تزال تدعم الكلمات الملفوظة)، ولأغنى الصمت عن الكلام، ولكُنَّا إزاء ظاهرة لسانية، (صوتية)، يشترك فيها كل ذي لسان وجهاز تصويت، لا إزاء ظاهرة لغوية وثيقة الصلة بحياة المجتمع، أي مجتمع، وأشكال تنظيمه ومؤسساته. اللغة هي مؤسَّسة المؤسَّسات ومؤسِّستُها.

الظاهرة الصوتية أو "اللغة الجماهيرية" لغة الهياج والمسيرات المليونية، أصوات تتجه إما إلى أذني شخص واحد، حاضر دوماً في ذهن المتكلم/ـة وفي دواخله/ـا حضوراً كابوسياً، هو "القائد"، "حفظه الله": (بالروح بالدم نفديك يا حافظ أو يا بشار)، لاتقاء شره، وإما إلى "أذني" عدو مُفترَض، ليس له ملامح، أو حضور فعلي في الأذهان، حين تهدر "الجماهير" بالقضاء على الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، وإما إلى أذني المتكلم نفسه والمتكلمة نفسها، على نحو ما يكون الهذيان، كما في الشعارات الرائجة: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، أو "الإسلام هو الحل"، أو "لبيك يا زينب .. لبيك ياحسين".

اقرأ أيضاً: لماذا تحارب تركيا اللغة العربية؟

وفي جميع الأحوال، تقول اللغة الجماهيرية أشياء لا يعنيها المتكلمون والمتكلمات لا من قريب ولا من بعيد، فهي غير لغة الحاجات والمطالب، التي تقولها المظاهرات والاحتجاجات، وتكتبها. لعل الفرق بين الظاهرة الصوتية والظاهرة اللغوية، في حياتنا، كالفرق بين الاستفتاء على (شخص رئيس الجمهورية)، أو مبايعة شخص "أمير مؤمنين"، وبين انتخاب رئيس جمهورية، في نظام ديمقراطي. هاتان لغتان أيضاً ونظامان اجتماعيان سياسيان.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية