الليبرالية.. قالب واحد أم طيف من النماذج؟

الليبرالية

الليبرالية.. قالب واحد أم طيف من النماذج؟


25/02/2020

هل الليبرالية قالب واحد جاهز يتم نقله كما هو من مكان إلى آخر؟ هل هناك تطرف في الليبرالية؟ ما هي الليبرالية الفردية؟ وبماذا تختلف عن الليبرالية الاجتماعية؟ ما هي الليبرالية الكلاسيكية؟ وما هي الليبرالية الجديدة؟ مسمّيات عديدة تدور حول ذات المسمى، تفصح عن خلافات وجدالات مرتبطة به، فما هي أبرزها؟
أين ينتهي دور الدولة؟
اقتصادياً، ارتبط صعود الليبرالية في أوروبا بصعود الرأسمالية الصناعيّة، في أعقاب الثورة الصناعيّة، بعد أن كان النمط الاقتصادي السائد ما يزال يعتمد على التجارة، التي كانت خاضعة لسيطرة وتوجيه الدول والحكومات، ومع صعود طبقة جديدة من أصحاب الثروات وأصحاب أدوات الإنتاج بدأوا بالمطالبة بدور أقل من قبل الحكومات في التدخل بالاقتصاد وتوجيهه، والمطالبة باقتصار أداء دور الدولة على وظائف محددة، مثل توفير الأمن، وأدوار السياسة الخارجية، وبات هذه الاتجاه يعرف باسم "الليبرالية الكلاسيكية".

الحرية الفردية والاعتراف بهوية الآخر وعدم إقصائه أحد أهم الركائز التي تقوم عليها الدولة الليبرالية

خلال القرن العشرين؛ اتجهت الدول غير الليبرالية إلى اتباع "النموذج السوفييتي"، القائم على إخضاع الاقتصاد للتخطيط والتوجيه المركزي من قبل الدولة، واستحوذت الدولة على معظم الصناعات والقطاعات المنتجة في البلاد. في المقابل؛ اتسمت الدولة الليبرالية في كونها تترك الحرية لرؤوس الأموال للاستثمار، والعمل دون تدخل، وفق المبدأ الليبرالي المشهور "دعه يعمل، دعه يمر"، إلا أنّ قدراً من الدور الاجتماعي احتفظت به الدولة من خلال قيامها بجمع نسبة من الضرائب المفروضة على الدخول، وذلك مقابل التزامها بالقيام بجملة من الأدوار وتقديم خدمات اجتماعية؛ من التعليم والصحة إلى إدارة قطاع النقل، وتقديم الخدمات المتعلقة بالبنى التحتية، وتوسّعت عدة دول ليبرالية في هذه المهمات، في إطار ما عرف خلال النصف الثاني من القرن العشرين بـ "الكينزية"، نسبة لعالم الاقتصاد البريطاني، جون مينارد كينز، الملقب "أبو الاقتصاد المختلط".

كينز.. مؤسس الاقتصاد المختلط القائم على الجمع بين الحرية الاقتصادية والأدوار الاجتماعية

إلا أنّ هذه المساحة بقيت محلّ خلاف بين الحكومات الليبرالية، خصوصاً بعد صعود موجة "الليبرالية الجديدة" في ثمانينيات القرن العشرين؛ ففي بريطانيا برز دور رئيسة الوزراء، مارغريت تاتشر، وفي الولايات المتحدة برز دور الرئيس رونالد ريغان، وكلاهما قادا عملية انقضاض على القطاع العام وعلى الأدوار الاجتماعية للدولة، وبرز من بين أهم المنظرين في هذا التيار؛ عالم الاقتصاد النمساوي، فريدريش فون هايك، والأمريكي ميلتون فريدمان.

اقرأ أيضاً: الإسلامي الليبرالي محمد توفيق علاوي: هل يستقيم مع داعميه المسلحين؟
واليوم، ما تزال مسألة الدور الاجتماعي للدولة الليبرالية محل خلاف؛ ففي بريطانيا، يؤكد حزب المحافظين على تقليص دور الدولة ومسؤوليتها مقابل توسيع دور رؤوس الأموال الخاصّة، في حين يواجهه في ذلك حزب العمال المرتبط بالنقابات العمالية، وتبقى نسبة الديمقراطية الاجتماعية في بريطانيا ضئيلة نسبياً.
وتعدّ ألمانيا النموذج الأفضل على الاقتصاد المختلط في أوروبا؛ حيث تجمع الدولة مزيجاً من عناصر الديمقراطية الاجتماعية، وأخرى من الليبرالية الجديدة، في حين تعدّ الدول الإسكندنافية الأكثر ميلاً للنموذج الاجتماعي، ضمن نموذج خاصّ بها يعرف بـ "دولة الرفاه".

اقرأ أيضاً: قراءة في كتاب الليبرالية: حين تعتدي سلطة المال على الحرية
أما الولايات المتحدة الأمريكية فتتراجع فيها السياسات الاجتماعية، وتسيطر عليها منذ تأسيسها التوجهات الليبرالية المحضة، وقد حدثت بعض التحسينات، عام 2014، عندما أدخل الرئيس أوباما برنامج الرعاية الطبية، والمعروف بـ "أوباما كير"، الذي هدف إلى توفير تأمين صحي شامل لكل أمريكي بتكاليف منخفضة. وما يزال القانون يواجه، إلى اليوم، انتقادات كثيرة وهجوماً واسعاً من قبل التيار الليبرالي الجديد في الولايات المتحدة، ويبرز اسم الرئيس دونالد ترامب ضمن أبرز المنتقدين.

الرئيس أوباما لحظة التوقيع على قانون الرعاية الصحيّة

القيود على الحريات
تعدّ الحرية الفردية بمثابة الركيزة الأساسية في النظم الليبرالية، وقد تمّ ترسيخها في الدساتير والقوانين، وتتنوع الحريات الفردية؛ من حرية الاعتقاد إلى حرية التعبير، إلى حرية التنقل والتملك، وغيرها، إلا أنّ ذلك لم يمنع من بروز الجدل المعروف بجدل الحريات الفردية؛ فرغم التأكيد على هذه القيمة إلا أنّ هناك دائماً هاجساً من تعارضها مع مصالح المجموع؛ حيث يبرز الجدال دائماً: أيّهما مقدّم: مصلحة الفرد أم مصلحة المجموع؟ وغالباً ما تكون الإجابة في صالح الأخير، بالتالي؛ تظهر بعض القيود التي تفرض على سلوكيات يعتقد أنّها ستكون ضارة في حال لم يتم تكبيلها، وبين الميل للفرد أو المجموع يبقى الجدل دائراً بين المذهبين: الليبرالية الفردية، المعروفة بالـ "ليبرتارية"، والليبرالية الاجتماعية.

تعدّ الولايات المتحدة وكندا من أشهر الأمثلة على تطور الدولة الليبرالية القائمة على التعددية في الثقافات والهويات

ومع تصاعد موجة "الإسلاموفوبيا" خلال العقدين الأخيرين، برزت عدة قضايا مثيرة للجدل حول حظر تقييد العديد من الممارسات الدينية الإسلامية، ما يعدّ تعارضاً صريحاً مع مبدأ حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، كما حدث، مثلاً، مع قانون حظر ارتداء النقاب في فرنسا، وكذلك في التشيك والدنمارك، ومع مقترح اليمين السويسري، عام 2009، بحظر بناء المآذن في سويسرا، وأزمة حظر ارتداء "البوركيني" في بعض مدن ألمانيا وفرنسا، التي ظهرت ابتداء من عام 2016 وما تزال تثير الجدل، وتحريم الختان في بعض ولايات ألمانيا، والذبح الحلال في بعض مقاطعات بلجيكا.
ويبرز أيضاً الحظر لتداول آراء ومقولات سياسية عديدة، في إطار ما يعدّ "مقولات متطرفة"، مثل النزعات "النازيّة الجديدة"، وكذلك تبرز تهمة "معاداة السامية" التي تمّ التوسع فيها بشكل كبير في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حتى باتت تهمة يتم توجيهها لكلّ من ينتقد سياسات دولة "إسرائيل"، وباتت تطال العديد من الأعمال الفنية والأكاديمية، وهو ما مثل تهديداً صريحاً لمبادئ الحرية الفكرية.

أثار قرار حظر ارتداء البوركيني في فرنسا جدلاً واسعاً

الاعتراف بالآخر.. القبول أو الدمج
إنّ الاعتراف بهوية الآخر وعدم إقصائه هو أحد أهم الركائز التي تقوم عليها الدولة الليبرالية؛ باعتبار أنّها دولة مواطنة تربطها علاقة حقوق وواجبات بالفرد المواطن، بصرف النظر عن أصله وعرقه ولونه وجنسه وديانته.
وتعدّ الولايات المتحدة الأمريكية وكندا من أشهر الأمثلة على تطور الدولة الليبرالية القائمة على التعددية في الثقافات والهويات، باعتبار طبيعة تكوين المجتمع الذي يضمّ عدة أصول وأعراق، وهو تنوع ناتج بالأساس عن موجات من الهجرات.

اقرأ أيضاً: هل تلتقي نظرية ولاية الفقيه مع الليبرالية الغربية؟
إلا أنّ هذا النموذج من الدول الليبرالية بدأ يشهد تراجعاً خلال العقود الأخيرة، ويعود جانب أساسي من سبب التراجع إلى التوسع في موجات الهجرة واللجوء من خارج العالم الغربي، وشعور الدول، خاصة في أوروبا، بتزايد احتمالات تهديد هوية المجتمعات الأوروبية. 
في أوروبا؛ تصاعدت مبادرات اليمين للترهيب من المدّ الإسلامي، وبات هناك خطاب منتشر يشترط على المهاجرين الجُدُد الاندماج في المجتمع، وإثر موجة الهجرة الواسعة، بعد عام 2010، من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ازدادت إجراءات تقييد الهجرة واللجوء إلى القارّة الأوروبيّة، وشرعت دول مثل بلغاريا والمجر في بناء الجدران الفاصلة على حدودها.

اقرأ أيضاً: لماذا تعاني الليبرالية من سوء السمعة في العالم العربي؟
في ألمانيا؛ برزت انتقادات واسعة من اليمين الألماني للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركيل، بسبب سماحها باستقبال عدد كبير من المهاجرين السوريين وجرى اتهامها بأنّها تغيّر ثقافة البلاد، وتصدّر "حزب البديل من أجل ألمانيا" هذا الهجوم، واستطاع تحقيق تقدّم واسع على أساسه.
وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية؛ أثار قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عام 2017، جدلاً واسعاً، بمنعه السفر إلى الولايات المتحدة من ستّ دول مسلمة، ذات غالبية مسلمة، ضمن ما عُرفت بـ "قائمة حظر السفر"، وعُدَّ قراره بمثابة إقصاء عنصري صريح، في حين لقي تأييد جانب كبير من الجمهور الداعم للرئيس، وتسبب الجدل الواسع حينها بإيقاف القرار مؤقتاً، قبل أن تقرر المحكمة الفيدرالية العليا العمل به.

عُدَّ قانون ترامب بـ "حظر السفر" بمثابة تعارض صريح مع المبادئ الليبرالية الأمريكية

ويبقى السؤال: هل تمنح مثل هذه الخلافات صفة المرونة للمنظومات الليبرالية؟ وبالتالي تجعلها قادرة على التجدد والاستمرار، كما يجادل بعض المنظرين، أم أنّها تجعل منها منظومة سائلة قابلة للتقمصّ والارتداء من قبل كلّ صاحب مصلحة، وبالتالي النزول إلى مراتب الشعبوية والتماهي بها؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية