"المجتمع المعنوي": دولة الأخلاق هي الحل

"المجتمع المعنوي": دولة الأخلاق هي الحل


30/05/2019

على الرغم من أهمية كتاب "المجتمع المعنوي" للأمريكي جون ديفيد غارسيا، إلا أنّه لم يحظ بالترجمة إلى اللغة العربية، على ما تنبئ به محركات البحث على شبكة الإنترنت.
الكتاب، الذي صدر عام 1971 وهو الأول لصاحبه، قدم نظريات أساسية للأخلاقيات التطورية ثم التطبيقات البديلة التي اعتبرت بمثابة نظرية أخلاقية ثورية كبيرة تستلهم أو تتقاطع مع الروح الفلسفية لدى من سبينوزا، وبيير تيلار دي شاردان، وسواهما من الفلاسفة والمفكرين.

 اقرأ أيضاً: فيلسوف صنع مراهم الزئبق وابتكر خيوط الجراحة من أمعاء القطة
ورمى غارسيا من كتابه إلى وضع مفهوم الأخلاق ذي أساس عقلاني محض من دون عاطفة أو أيديولوجيا، لذا يوحّد الكتاب الأخلاق والفن والعلوم والتكنولوجيا من خلال ما يسميه المؤلف "التنمية الأخلاقية".
ولجون ديفيد غارسيا ( 25 مارس (آذار) 1935 - 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 ) أربعة كتب، والعشرات من المقالات والمحاضرات والندوات، وحاول تعميم أفكاره، وتأسيس مدارس لتنميتها بشكل رئيسي في الولايات المتحدة، ثم في تشيلي والمكسيك.

اقرأ أيضاً: النفّري الذي اتسعت رؤيته فضاقت عبارته: الجهل عمودُ الطمأنينة
ويعتقد غارسيا أنّ الجنس البشري على وشك الانتحار. لذا فإنّ من واجبه تقديم بديل منطقي عن الموت، ليضمن بقاء الإنسان، من خلال خطة للعمل الأخلاقي تشدّد على أنّ السعادة من دون هدف والأمن من دون وعي هي أهداف الهزيمة الذاتية التي يجب التخلي عنها إذا أراد التطور البشري الاستمرار.
ومن أجل إلقاء نظرة على جهود هذا المفكر، نقتبس، بشيء من التصرّف، هذا الجزء من كتابه، بعد ترجمتنا له إلى العربية من لغته الأصل الإنجليزية:

يمثل مجتمع الأخلاق امتداداً منطقياً للنموذج الحالي للإنسانية
المجتمع المعنوي
يمثل مجتمع الأخلاق امتداداً منطقياً للنموذج الحالي للإنسانية. المجتمع المعنوي هو مجتمع الكائنات الأخلاقية، التي تعتمد الأجهزة والمعرفة والعلم والتكنولوجيا لتوحيد المكونات الفردية للذكاء وتحويلها إلى الذكاء الجمعي. ومن شأن الذكاء الجمعي أن يحرّر المجتمع الأخلاقي، وصولاً إلى مجتمع الفكر النقي.

الناس في حالة من التراجع الحاد والتدهور الحتمي نتيجة البيروقراطية والأيديولوجيا ويتجلى هذا في الديمقراطيات من خلال الثورة ضد العقل

العقل هنا هو الأثر الذي يمكن أن يؤثر على نفسه. وبالتالي فإنه يمكن أن يتطور نحو الفكر النقي والوعي التام قبل أن يصبح أقل تأثيراً من الجسم، وأكثر تأثير في حد ذاته. وهذه عملية معقدة ومستمرة منذ آلاف السنين.
هكذا، ومن دون وعي، يتم إنشاء المجتمع المعنوي من خلال خلق نظائر من مكونات الذكاء نفسه. حدث هذا في ظل التوتر المستمر والاختبار العشوائي للقوة التطورية التي دفعت نحو الذكاء الجمعي للإنسان، بعد جملة من النتائج والاختبارات التي قادت إلى الذكاء الجماعي.
المجتمع الأخلاقي للإنسان حاله كما هو حال الكائن إلى الخلية؛ ومع ذلك، فإن المجتمع الأخلاقي في نهاية المطاف لانهائي.

اقرأ أيضاً: أوسكار وايلد سارداً حكاية سيدة مولعة برغبة أن تبدو غامضة
الفرق التطوري حاسم بين مجتمع أخلاقي وجميع أشكال الحياة الأخرى، أي إنّ المجتمع الأخلاقي واع تماماً لتطوره الخاص. وهذه العملية يمكن أن تكتمل على نحو مقصود داخل الدولة الأخلاقية، عندما يكون لدى الجميع الإدراك التطوري التام والموحّد لزيادة الوعي الكلي الجماعي. ومن هنا تكون بداية المجتمع الأخلاقي وانطلاقته.
ربما يكون المجتمع الأخلاقي، في البداية، متفوقاً قليلاً عن الدولة الأخلاقية، ومع ذلك عندما يبدأ البشر توحيد ذكائهم الفردي لغرض وحيد هو تضخيم الذكاء الجمعي، سيبدأ المجتمع الأخلاقي يتطور بسرعة، حيث يعكس التطور الجماعي التطورات الفردية لكل عناصر المجتمع الذاتية.
وتتطور مكونات المجتمع الأخلاقي من شبكات الاتصالات ومضاعفات الآليات الميكانيكية والكهربائية وأجهزة الاستشعار، وأجهزة الكمبيوتر، والخلايا الاصطناعية وأجهزة أخرى. وبالتالي فإنّ الدولة الأخلاقية تمثل الإرادة الجماعية الجنينية والخيال الكلي للمجتمع الأخلاقي. في نهاية المطاف المجتمع المعنوي سيكون كياناً واحداً فيه يندمج الجميع بالمعرفة والآلات.

اقرأ أيضاً: خطبة مارتن لوثر كنج: الأحلام حين تهزم أوهامَ القوة
ولكن في المجتمع الأخلاقي على الإنسانية أن تتطور تدريجياً من الإنسانية المجزأة إلى الوحدة، من دون أن تكون هناك تغييرات جذرية مفاجئة في الهيكل. وفي غضون ذلك سيكون الناس أشدّ وعياً، أكثر من أي وقت مضى، فمن خلال الحرية فقط سيكون المجتمع الأخلاقي ممكناً، فالحرية والوعي هما الأساس في الأسباب والمؤثرات.
المجتمع المعنوي سيكون كياناً واحداً فيه يندمج الجميع بالمعرفة والآلات

دراسة الجدوى
الجدوى الفنية للمجتمع الأخلاقي واضحة. فنمط قدرة الإنسان المتزايدة على التنبؤ والتحكم في بيئته إجمالاً يشير إلى أنّ جسم المجتمع الأخلاقي ممكن، وأنّ معظم مَن كان موجودٌ بالفعل أو يتم إنشاؤه بسهولة. يبقى فقط العمل على توسيع الأسلوب العلمي ليتناسب مع البيئة النفسية والاجتماعية من أجل خلق العقل، أي الروح. بهذه الطريقة فقط يمكن تخليق العقل للمجتمع الأخلاقي.

اقرأ أيضاً: إبراهيم المازني وحلّاق القرية
سيتم إنشاء العقل الجمعي للمجتمع الأخلاقي من العقول الفردية للإنسانية بحرية، من خلال جماع الفن والعلوم والتكنولوجيا، وتحقيق هدف مشترك. ويبدو أنّ الإرادة والخيال وتضخيمهما من قبل، من خلال التعاون الوثيق الطوعي بين الأشخاص يخدم هذا الهدف المشترك. كما أنّ البرامج التعليمية للدولة الأخلاقية تزيد من وتيرة هذه العملية من خلال جعل جميع الأشخاص أعلى وعياً، وكذلك خلق قنوات تواصل مباشرة بين العقول الفردية. وهذا الأخير يمكن أن يكون امتداداً للتواصل الاصطناعي، ونسميه لغة.
هذا يمثل امتداداً طبيعياً للعمل الذي تقوم به حالياً علوم وظائف الأعصاب والفيزياء الحيوية وعلم النفس الرياضي. فإذا تم تجميع المعلومات، والخيال فإنّ العقل الجمعي للمجتمع الأخلاقي سيبدأ في التطور. وسيتم تعزيز التنمية من خلال تضخيم عمل الذاكرة والمنطق من خلال تطوير أجهزة الكمبيوتر الفائقة مع مكونات شبه مجهرية. وسيتم تعزيز العملية برمتها من خلال التكنولوجيا التي تشهد نمواً سريعاً من المجسات الاصطناعية والمستجيبات.

اقرأ أيضاً: عمر في مرآة العقاد: سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع
الجدوى الفنية للمجتمع المعنوي مضمونة. قد يستغرق إنشاؤها مئات السنين، أو قد يكون من الممكن في خمسين عاماً. الوقت غير مؤكد إلى حد كبير. العائق الجدي الوحيد لخلق مجتمع أخلاقي هو زيادة التوترات في الكون البشري.
الناس حالياً في حالة من التراجع الحاد والتدهور الحتمي نتيجة البيروقراطية والأيديولوجيا. ويتجلى هذا في الديمقراطيات من خلال الثورة ضد العقل، والرفاهية، والخصخصة، والأمية العلمية، والأهم من ذلك كله من خلال الفجور في القيادة.
في الدول الشمولية يتجلى ذلك من خلال خنق غير أخلاقي للحرية لخدمة مصالح ذاتية من الطبقات الفاسدة، والبيروقراطية والأيديولوجية التي يهيمن عليها الرجال بشكل غير لائق. قمع الحرية من خلال الأيديولوجيا والبيروقراطية يؤدي حتماً إلى انقراض الوعي عن طريق جعل جميع الناس غير أخلاقيين. العالم أصبح غير أخلاقي.
الدفاع الوحيد هو أنّ الجنس البشري لديه التعليم، ولكن التعليم هو أيضاً في تراجع بسبب البيروقراطية وإعاقة العلوم النفسية والاجتماعية من خلال إنشاء العقائدية. الأمل الوحيد للتغلب على الكون، الذي سيدمر حتماً الجنس البشري، هو الدولة الأخلاقية.

على المدارس أن تقوم بتدريس جميع العلوم والأخلاق بوصفها، موضوعاً واحداً متكاملاً

ما يجب القيام به

اذا كانت الناس ترغب في الاستمرار في التطور نحو الوعي الكلي، فهناك بعض الخطوات الأساسية التي يجب اتخاذها. الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي تجميع الأنصار واللاعبين المؤيدين للعبة الحياة. وتركيز كل الطاقات على إنشاء دولة الأخلاقية. ويجب أن يتم فعل ذلك مهما كانت التكلفة لهم ولذويهم. وكل رجل أخلاقي يدرك الأنماط التطورية على طريقته الخاصة. تاريخياً كان هذا التصور في مستوى الوعي، وهذا ربما كان الحال مع موسى وكونفوشيوس وبوذا وسقراط، ويسوع.

اقرأ أيضاً: "البيت والعالم" لطاغور: المحبّ لسمكته مطبوخةً ليس كمن يحبّها في الماء
وربما أول من قام بمحاولة مقصودة في الإدراك الواعي للأنماط التطورية هو سبينوزا. بعد سبينوزا، أدلى المفكرون الآخرون بمحاولات مماثلة. كان أبرزها ما قدمه غوته، داروين وماركس، وبيير تيلار دي شاردان (هو فيلسوف وكاهن يسوعي وجيولوجي فرنسي تخصص بعلم حفريات ما قبل التاريخ والحفريات، وساهم في اكتشاف إنسان بكين. ومن أعماله تصور فكرة نقطة أوميغا وتطوير مفهوم فلاديمير فردانسكي المعروف بمجال العقل أو مجال نو "Noosphere". واجهت بعض أفكاره معارضة المسؤولين في الكنيسة الكاثوليكية وتم منع العديد من كتبه).

اذا كانت الناس ترغب في الاستمرار في التطور نحو الوعي الكلي يتعين تجميع الأنصار واللاعبين المؤيدين للعبة الحياة

هؤلاء الرجال الخمسة كل له مزاج مختلف جذرياً وأيديولوجياً خاصة. فقط يبدو سبينوزا من بينهم خالياً من أي أيديولوجيا واعية، لكنه اضطر إلى العمل مع العلم البدائي والمنطق. ومع ذلك، إن شئنا استخراج المبادئ الأخلاقية من كتابات هؤلاء، فإننا سنتوصل إلى رمز ثابت مثير للدهشة من الأخلاق هي لعبة الحياة. لذلك، البشر الأخلاقيون قد لا يوافقون على علاقة العلة والمعلول، ولكن من المرجح أنهم يوافقون على الأخلاق الأساسية. هذا الميل إلى الاتفاق على المبادئ الأخلاقية الأساسية ينبغي أن يستثمر لانضمام جميع الأشخاص الأخلاقيين في المجتمع بقصد إنضاج وبلورة لعبة الحياة، وكذلك إنشاء الدولة الأخلاقية، والتغلب على البيروقراطية السياسية، وتولي الحكومة بالوسائل الأخلاقية.
وثمة طريقة واحدة لتحقيق هذا الهدف هو أن تبدأ المدارس بتدريس جميع العلوم والأخلاق بوصفها، موضوعاً واحداً متكاملاً، وهذه وظيفة أساسية لا يتم القيام بها من قبل البيروقراطية التعليمية؛ لأنّ الفساد البيروقراطي يجب أن يتوقف قبل أن يدمر البشرية.

اقرأ أيضاً: حليم بركات.. إذ يغوص في المجتمع العربي ويشخّص علله وتطلعاته
يتعين أن يكون الهدف الرئيسي لمنع البيروقراطيين السياسيين من تبوّؤ المناصب، هو انتخاب القادة الأخلاقيين. ولتحقيق هذه الغاية على الأنصار تركيز الثروة بالوسائل الأخلاقية الممكنة، من خلال التركيز على الاختراعات والإبداعات، وإنتاج التكنولوجيا مما يزيد الوعي.
ثم يجب أن تستخدم كل الثروة المتراكمة لانتخاب الرجال الأخلاقيين في المناصب العامة وإقصاء القادة غير الأخلاقيين من السلطة. ويمكن القيام بذلك في إطار حزب منظم مخصص للقضاء على الفساد السياسي بالوسائل الأخلاقية. هذا يمكن أن يطلق عليه حزب الأخلاق.
هذا الحزب يمكن أن يستخدم لإعادة توجيه الأنشطة الهدامة في الوقت الحاضر وغير الأخلاقية ومحاصرة الثورة ضد العقل، وإعادة الأمور إلى قنواتها الأخلاقية. يجب أن ينتصر السلوك الأخلاقي على الفجور.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية