المشهد السياسي في تونس بعد الثورة: استقطابات ثنائية وشعبوية

المشهد السياسي في تونس بعد الثورة: استقطابات ثنائية وشعبوية


14/04/2021

فشلت الأحزاب السياسية في تونس بعد ثورة 2011، سواء العلمانية أو اليسارية أو الليبرالية، في النفاد إلى مشاغل الوطن الحقيقية، وفي تشكيل تحالفات قوية، أو تطوير شبكات إقليمية، أو إنشاء برامج حزبية قابلة للبقاء، واختزلت نشاطها غالباً في المنافسة الثنائية بينهما، حيث تقوّض الخصومة الأيديولوجية والاختلافات الإستراتيجية والانقسامات القيادية في صفوفها، قوتها في المشهد العام الذي يهدف إلى ترسيخ أسس الديمقراطية.

اقرأ أيضاً: أزمة المحكمة الدستورية في تونس.. ومحاولات حركة النهضة إخراج الرئيس من الحلبة

واقتصر الفعل السياسي لهذه الأحزاب على صراع حول السلطة بين نخب الحكم والمعارضات وصراع بين الأضداد لا ينتهي، ما يخلق حالة مستديمة من الارتباك، وعبّد الطريق أمام ظهور تيار جديدٍ، يمثّل تيار الشعبوية، الذي تغلغل في المشهد التونسي بشكلٍ منظم، منذ انتهاء الفترة النيابية للمجلس التأسيسي، عام 2014.

قيس سعيّد

هذا التيار الشعبيّ ظهر في تونس بعد أن دخل المواطن التونسي في دوامة من الإحباط واليأس والنقمة على الثورة وممثليها، ليجد ضالته في الخطاب الشعبوي، خطاب يعبّر عن حالته النفسية، خصوصاً أنّه يستمدّ مفرداته من معجمَين متضادَّين، الأول حسّي وعاطفي موجّه للشعب، والثاني عنيف موجه لمنظومة الحكم والنخب، وتمثّله في تونس ثلاثة أطراف أساسية، هي كلّ من ائتلاف الكرامة ذو التوجه الإسلامي، وعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ المحسوبة على نظام بن علي، ورئيس الجمهورية قيس سعيّد.

سياسة اتصالية شعبوية تحكم أداء قيس سعيد

سعيّد أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية، الذي مثّل أحد أبرز مفاجآت الانتخابات الرئاسية بالنظر إلى عدد الأصوات التي تحصل عليها في الانتخابات، والتي تقارب 3 ملايين صوت انتخابي، في حين لم يسبق له خوض أيّة تجربة سياسية أو مدنية في السابق، بعد أن تقدّم بخطابات أشبه باجتماعات عامة، صوّب فيها سهامه على الأحزاب السياسية وخيانتها وتلوثها بالفساد، مقابل نظافة يده، حتى أنّها لم تتغيّر بعد فوزه بالرئاسة.

على امتداد السنوات العشر الماضية، انتهت كلّ التحالفات وتشكّلت أخرى على حطام ما سبقها، وهو ما جعل المناخ السياسي محكوماً دائماً بالمصالح الضيقة

وظلّ سعيّد، خلال السنة والنصف السنة التي مضت، مشغولاً بنفسه وبخصوماته الدستورية، التي لا تنتهي، والتي تصبّ في غالبيتها في صلاحياته المحدودة التي منحه إياها الدستور، منشغلاً بذلك عن هموم التونسيين الذين انتخبوه بأغلبية مطلقة، ليصبح بذلك ظاهرةً خطابيةً يتحرى فصاحة اللّغة، ويستعير مصطلحاته من قواميس اللغة وصفائها، ويحاول مواءمة البنية الصوتية لمجريات المعنى، حريصاً على أن يكون ذلك أسلوباً يُعرف به، وفق ما نشره مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية.

هذه الخطابات وهذا الأداء وصفه الخبير في الاتصال السياسيّ، قيس بن مراد، بالشعبوية الغريبة، التي تبدو واضحة في كلّ قراراته وتحرّكاته الميدانية، وأيضاً في أغلب خطاباته التي لا تليق بمقام رئاسة البلاد.

الخبير في الاتصال السياسيّ، قيس بن مرد

وقال بن مراد، في حديثه لـ "حفريات"؛ إنّ الرئيس كان أجدر به أن يقدّم حلولاً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، وأن يحاول تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين، لا أن يتحوّل إلى طرف نزاع، ويتعمّد إحراج رئيس الحكومة وباقي ممثلي السلطات في البلاد.

اقرأ أيضاً: كيف ومتى تخرج تونس من أزمتها الدستورية؟

بن مراد انتقد أيضاً تحرّكات سعيّد الأخيرة، حين توجّه إلى المقهى في وقت يفرض فيه رئيس الحكومة حظر تجوال، وانتقد أيضاً سياسته الاتصالية حين استقبل أطرافاً سياسية بمقرّ الرئاسة، لينشر بعدها فقط صوته على المحادثة، وهو ما لا يليق بمقامه، لافتاً إلى أنّه لم يتقبّل بعد الصلاحيات المحدودة التي منحها إياه الدستور، ولم يقبل بصلاحيات باقي ممثلي السلطة، وهو ما أزّم الأوضاع المتأزمة أساساً.

موسي وائتلاف الكرامة

في المقابل، نصّبت كتلة ائتلاف الكرامة حليفة حركة النهضة، التي يرأسها المحامي المعروف لدى التونسيين، سيف الدين مخلوف، نفسها حامية الثورة والمؤتمنة عليها، وقدّمت نفسها للناخب كمدافعة عن ثورته المغدورة، فَركزت على عنوان السيادة الوطنية، والمطالبة بطرد السفير الفرنسي، أو المقيم العام، كما يسميه خطابها الدعائي، واستثمرت في حربها مع المنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة الشغيلة التي تُعنى بالدفاع عن العمال).

اقرأ أيضاً: الرئيس التونسي يخوض حرباً جديدة مع حركة النهضة

وكان اسم مخلوف قد سطع نجمه منذ 2012، بعد أن ترافع على العديد من المتهمين في قضايا إرهابية أبرزهم الناطق الرسمي باسم أنصار الشريعة، سيف الدين الرايس، ثم المتهمين في مدرسة الرقاب القرآنية، وصولاً إلى فخري الأندلسي، الذي حكم عليه بالإعدام في قطر بسبب عمل إرهابي تمثل في ذبح مواطن صومالي.

وباتت كتلته، بسبب الشعارات الشعبوية المتمثلة في الدفاع عن الإسلام، الطرف الأكثر ضجيجاً في المشهد، إذ أعطت مجالاً لانفجار الكراهية، وصعود الخطاب العدواني ضدّ الدولة المدنية، وسلمية العمل السياسي، بعد الهدوء النسبي في فترة رئاسة الراحل، الباجي قائد السبسي، خصوصاً بعد دخوله في عداء مع الحزب الدستوري الحرّ الذي تترأسه عبير موسي.

المحلل السياسي محمد بوعود لـ "حفريات": منسوب الشعبوية داخل أسوار البرلمان بلغ حدّ اللاعودة، وأصبح شعار اليوم لكلّ الكتل البرلمانية

موسي، التي أطلقت عروضها الشعبوية منذ الجلسة الافتتاحية للدورة النيابية الحالية، التي انطلقت في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، بالصراخ بعد أن طالبت بنقطة نظام ورفضت أداء القسم، معلّلةً موقفها بتغيّب بعض النواب عن مراسم أداء القسم الجماعي، ورفضت وقتها ترديد  "النشيد الوطني" مع زملائها، بل وقاطعتهم بالصراخ.

ورغم دفاعها المستميت عن النظام السابق، ومهاجمتها المستمرة للثورة، فقد نجحت بأن تفرض نفسها كلاعب سياسي مؤثر في الساحة السياسية والحزبية في تونس، بعد أن بنت حملتها الانتخابية على معاداة الإسلاميين، الذين تمكّنوا من الحكم منذ 2011.

اقرأ أيضاً: تونس... فوبيا المحكمة الدستورية

ويعتقد المحلل السياسي، محمد بوعود، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ منسوب الشعبوية داخل أسوار البرلمان بلغ حدّ اللاعودة، وأصبح شعار اليوم لكلّ الكتل البرلمانية، لافتاً إلى أنّ كتلتي ائتلاف الكرامة وعبير موسي يتصدّران المشهد الشعبوي بامتياز، خاصّةً من ناحية تعطيل الجلسات وإهدار الوقت والجهد على الشعب، وما يتبع ذلك من تفويت فرص على الدولة في مناقشة قرارات مهمّة، فضلاً عن ضرب هيبة الدولة والبرلمان والمؤسسات.

المحلل السياسي، محمد بوعود

ولفت بوعود إلى أنّ البرلمان تحوّل بفعل الشعبوية المقيتة وبعض من نواب الصدفة إلى مجال للتهكم ونفّر التونسيين من العملية السياسية برمتها، إضافةً إلى أنّه خلق عديد الإشكالات التي عطّلت مسائل مهمّة للدولة.

بوعود رأى أيضاً أنّ هذه الشعبوية التي تسرّبت إلى البرلمان حوّلت الخطاب السياسي إلى عداوات انعكست على وضع رئيس البرلمان، الذي تحوّل من كرسي الرئاسة إلى كرسي هزّاز لا يعلم متى يُعزل منه.

استقطابات ثنائية

هذا المشهد ظلّ يراوح مكانه، وظلّ الفعل الحزبي متحرّكاً والصراع السياسي على أشدّه كما في الأعوام الأولى التي تلت الثورة، رغم التقدّم الواضح في مجال الحقوق والحريات والتداول السلمي على السلطة، والتنظيم المتواتر للانتخابات.

وعلى امتداد السنوات العشر الماضية، انتهت كلّ التحالفات وتشكّلت أخرى على حطام ما سبقها، وهو ما جعل المناخ السياسي محكوماً دائماً إلى تحالفات متحوّلة بحسب المصالح الحزبية، كما فشلت هذه الأحزاب من الحكم والمعارضة جميعها في تشكيل تحالفات قوية، أو تطوير شبكات إقليمية، أو إنشاء برامج حزبية قابلة للبقاء.

اقرأ أيضاً: بعد 10 سنوات على الثورة: ما الذي فعلته "النهضة" بتونس؟

كما وتواصل الاستقطاب الثنائي الذي انطلق في البداية بين حزب نداء تونس وحركة النّهضة من جهة، والجبهة الشعبية وحركة النهضة من جهةٍ أخرى، وانتهى إلى استقطاب بين القوميين والإسلاميين ممثلين في النّهضة؛ حيث بحثت النّهضة دائماً عن شريكٍ تحتمي به، وتخفي به ملفاتها الأمنية والقضائية المتعلقّة بملفّ الإرهاب وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر، فيما استخدمت باقي الأحزاب الخطاب المعادي لتيار الإسلام السياسي لجذب الناخبين، بدلاً من تقديم حلول للتحديات التي تواجهها.

الناشط السياسي اليساري، عبيد البريكي

من جانبه، يرى الناشط السياسي اليساري، عبيد البريكي؛ أنّه ليس من السهل خروج تونس من مربّع الاستقطاب الثنائي، طالما لم يهتدِ اليسار كقوّة ثالثة في المشهد الحالي إلى أسلم السبل وأيسرها لتشكيل قطب تقدّمي يستند إلى برنامج سياسي يستجيب لطبيعة التحديات المطروحة، وطالما أنّه لم يستوعب الدرس الكبير بتركه فراغ أدّى إلى توسّع الإسلام السياسي.

وأضاف البريكي، في حديثه لـ "حفريات"؛ أنّ المعركة مع الإسلام السياسي خاضها اليسار على مرّ التاريخ، وقبل الثورة وبعدها، لكنّه ترك فراغاً في المشهد الحالي أدّى إلى بروز قطب آخر، يبدو في ظاهره أنّه معادٍ للنّهضة، لكنّه لا يختلف معها في شيء من حيث الخيارات الليبرالية، وهو الحزب الدستوري، مشدّداً على أنّ محاولات التجميع لم تهتدِ بعد إلى الطريق الصحيح.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية