النخبة الروحية وشهوة الحضور

النخبة الروحية وشهوة الحضور


25/11/2018

نقصد بـ"النخبة" جملة الفئات الفاعلة في الحياة المهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ممن تتوافر فيها صفات تؤهلها لأن تحتل مكانة خاصة في حقول فاعليتها. فالمدير والرئيس ومعلم الحرفة الرأسمالي والوزير والمستشار ورئيس الحزب والنقابة والمختار والوجيه وزعيم العشيرة والشاعر والقاص والمفكر والفنان... إلخ، كل هؤلاء ينتمون إلى مفهوم النخبة.

اقرأ أيضاً: لويس عوض: ثار على النخبة وجهر بعدم قداسة العربيّة
وأهم هاجس من هواجس النخب جميعها، بلا، استثناء، هو شهوة الحضور.
وشهوة الحضور تعني احتلال مكانة مميزة في أوساط الناس بعامة، أو في وسط مرتبط بالحقل الذي تعمل فيه النخبة، ولا يمكن أن تتحقق شهوة الحضور دون اعتراف جمهور ما، ولهذا لا يمكن فصل الحضور عن الاعتراف .

شهوة الحضور تعني احتلال مكانة مميزة في أوساط الناس أو في وسط مرتبط بالحقل الذي تعمل فيه النخبة

لن أتناول كل النخب من حيث شهوة حضورها، بل أتوقف عند النخبة الروحية، وأقصد بها تلك التي تنتج سلعة ثقافية ليس لها وظيفة في تحقيق حاجات مادية للجمهور، وأعتقد بأنها أكثر النخب شهوة بالحضور ونزوعاً نحو الحصول على الاعتراف، بسبب أنها معتدة بذاتها بوصفها تملك رأسمالاً رمزياً لا يتوافر إلا لنخبة قليلة العدد، وأثرها لا يقودها إلى الحضور دون الاعتراف كشرط ضروري وكافٍ لتحقيق شهوة حضورها .
وإذا كان كل مبدع لأثر فني وأدبي وفكري ينطوي على شهوة الحضور، فإنّ هناك فرقاً كبيراً بين من يحقق شهوة حضوره ثمرةً لإبداعه، وبين من يسعى للحضور عبر أثره.

اقرأ أيضاً: أحزان العربي ودولة الحق المنشودة
فالفيلسوف والشاعر والمفكر والروائي والمسرحي والرسام والنحات وكاتب المقال يطلون على العالم بآثارهم، ويحضرون في العالم بسبب آثارهم، وكلما أنتج أثر ما استقبالاً واسعاً واعترافاً، حقق لصاحبه شهوته بالحضور، والعكس صحيح.
لكنّ الشهرة، بوصفها دلالة على الحضور، لا تعني علوّ الأثر الفكري أو الفني والأدبي؛ لأنّ وعي المتلقي وذائقته يتحكمان بدرجة حضور صاحب هذا الأثر أو ذاك. وهناك حالات كثيرة لم يحقق فيها المبدع حضوره في حياته، وإنما حضر بعد زمن من رحيله؛ كحضور فان كوخ مثلاً. حتى نيتشه هذا الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس الآن، لم يحظ في حياته بحضور يليق بخلقه الفكري -الشاعري.

اقرأ أيضاً: التبرير الأيديولوجي للسقوط الأخلاقي
  وقد تجد شاعراً يخاطب روح الجماهير، بالمعنى الذي أشار إليه غوستاف لوبان، قد حقق انتشاراً وحضوراً وشهرة في حياته، أكثر بكثير من شاعر حلق في فضاء الإبداع الخلاق، وهكذا.

هناك حالات كثيرة لم يحقق فيها المبدع حضوره في حياته، وإنما حضر بعد رحيله؛ كحضور فان كوخ ونيتشه

فيما خصّ الحضور الذي لم يسع إليه صاحب الأثر وحضر ثمرةً للأثر، والسعي للحضور عبر الأثر، فإننا نواجه هنا مشكلة  معقدة، ألا وهي العلاقة بين درجة شهوة الحضور وإمكانية تحققها كواقع عبر الأثر؛ إذ يحصل أن يكون لدى مشتغلٍ بإنتاج الثقافة الروحية شهوة حضور كبيرة جداً، ولا ينطوي على إمكانيات ذاتية في حقل الإبداع لتحقيق هذه الشهوة. وهذه حالة تعاني منها العقول المتوسطة غالباً، وتخلق لدى صاحبها نزعة عدوانية لا شعورية تجاه الآخر وعدوانية تجاه نفسه. فتحمله شهوة الحضور بنزعته العدوانية هذه على الحضور الزائف الذي يتعين بافتعال الضجة حول ذاته، تأسيساً على عدوانيته، حيث تتم إما بالتعرض لشخصية ذات حضور عاصف بالنقد البذيء، ليحضر عبر صاحب الحضور، وإما بافتعال معركة مع قيمة أثيرة من قيم المجتمع تثير غضب الجمهور، وإما باختلاق واقعة تثير الرأي العام .
ولا شك في أنّ عمر الحضور الزائف قصير جداً، فضلاً عن أنه حضور بالسلب كشهرة المرذول.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية