النشيد الإسلامي.. هل يحاول الإسلاميون كتم الفرح؟

النشيد الإسلامي.. هل يحاول الإسلاميون كتم الفرح؟


21/01/2018

"الدين يسر، والخلافة بيعة، والأمر شورى، والحقوق قضاء"، بيتٌ من أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، صنع في الوجدان المسلم، ولا يزال يصنع، ما لم تصنعه عشرات؛ بل قل مئات، الكلمات أو الأناشيد أو القصائد، التي نظّمها الإسلاميون في سياق ما أسموه بالنشيد الإسلامي، الذي عبّر عن حالة من حالات المراهقة الذهنية، التي تصوّرت أنّ رحلة البشر على هذه الأرض، بكل ما أنتجته من فنونٍ وآداب وقيمٍ، تتوارى خجلاً في مواجهة ما أنتجه هؤلاء الإسلاميون، الذين تصوّروا، تحت وهم الوصاية، أنّهم قادرون على السطو على الوجدان العربي والمسلم، وإعادة تشكيله وفق مشاريعهم الملتبسة والواهمة.

عندما انخرطت مجموعات التطرف في التكفير والحكم على المجتمعات بالجاهلية انشغلت بإيجاد ما أسمته البديل الإسلامي

في سياق ما أصاب الإسلاميين، مع مطلع السبعينيات، وفي ظلّ موجة فقهية، تسلّلت إلى الوجدان العربي والمسلم، تلك الأهازيج التي قدّمها أصحابها باعتبارها العلاج الناجع الذي سيرتقي بوجدان الأمّة، وينقذها من الوهدة التي انحدرت إليها، على حدّ تصوّرهم.

عندما انخرطت مجموعات التطرف في التكفير والحكم على المجتمعات بالجاهلية، انشغلت بإيجاد ما أسمته "البديل الإسلامي"، حتى شهدنا لافتات الحوانيت في واقعنا المصري، في فترة السبعينيات ومطلع الثمانينيات، التي تحمل عناوين، مثل: البقالة الإسلامية والجزارة الإسلامية، إلى آخر اللافتات الموحية، التي عبّرت عن محاولات شطب حياة الناس، وما أنجزوه من فنون وعلوم وآداب، لحساب منتجهم المتوهَّم. 

ولأنّ القوم يحبّون التقعيد لكلّ أمرٍ، أو إعطاء الإطار الشرعي له، فقد وضعوا ضوابط لما تصوّروه بديلاً إسلامياً للغناء، هذا الفنّ البشريّ الذي لم يتسمّ يوماً باسم دينٍ أو حضارة، فقد ظلّ فعلاً بشرياً إنسانياً، يعبّر عن حرية الإنسان، وحبّه للحياة، وتجاوبه مع الكون والطبيعة.

مزجت أم كلثوم الغناء الديني بالعاطفي بالوطني وجعلته روحاً واحدةً فأحسنت في كلّ أحوالها

هذا الإنسان الذي يطرب لخرير الماء، وصوت أوراق الشجر حين يداعبها النسيم، وزقزقة العصافير أو غناء الكروان، ما كان لوجدانه أن ينشأ صحيحاً دون أن يترنّم مع تلك المخلوقات، فيختار اللحن والكلمة والصوت، هذا المثلث الذي، إذا اكتمل، يطرب الوجدان، ويرتقي به، ويسمو بأخلاقه، أبعد ممّا تسمو به الموعظة التقليدية الجافة.

ولا زلت أذكر ما قاله أحد أساطين الإسلام السياسي، الشيخ الغزالي، الذي كان يطرب لسماع قيثارة الشرق، أم كلثوم، وحين استنكر تلميذ له ذلك، قال له: أنا أسمع أمّ كلثوم، وهي تغني "ولد الهدى فالكائنات ضياء، وفم الزمان تبسّم وثناء"، وهذا الغناء مما يرقّ به القلب.

ولا زلت أذكر حجم التجاوب مع أم كلثوم، وهي تشدو تلك الأغنية في بيروت، لحشدٍ من المسيحيين الموارنة.

مزجت أم كلثوم، وغيرها، الغناء الديني بالعاطفي بالوطني، وجعلته روحاً واحدةً، فأحسنت في كلّ أحوالها، وصنعت موجات من التأثير الجارف والممتد؛ لأنّها اجتهدت في تأمين أركان المثلث، باختيار الكلمة واللحن، ثم الصوت الأسطوري الذي جسّدته، إضافة إلى تصالحها مع كلّ عصر غنّت فيه للإنسان.

من منّا لم تسمُ روحه إلى السماء وهو يستمع لأم كلثوم وهي تغنّي ولد الهدى أو إلى عرفات الله أو رباعيات الخيام؟

وحين قدّمت الغناء الديني، صنعت بصوتها، وبألحان العظماء من ملحنين، وإبداع الشعراء الكبار؛ كأحمد شوقي، وبيرم التونسي، وعلي أحمد باكثير، ومحمد إقبال، وعمر الخيام، ما لم تصنعه تلك الكلمات المباشرة والوعظ الجاف، الذي قدّمته أصوات فقيرة، وألحان أفقر، حاولت أن تتجاهل التراكم الفني الذي صاغه العرب وغيرهم.

من منّا لم تسمُ روحه إلى السماء وهو يستمع لأم كلثوم وهي تغنّي "ولد الهدى"، أو إلى "عرفات الله"، أو "رباعيات الخيام"، أو "القلب يعشق كلّ جميل".

من منّا يتذكر نشيداً واحداً، أو مطرباً واحداً، أو ملحناً واحداً لمس وجدانه، أو أثّر فيه أدّاه أحد هؤلاء الإسلاميين، لقد حاولوا السطو على هذا الفنّ، وأسلمته، عبر ما أسموه "ضوابط النشيد الإسلامي"، التي أجملوها فيما يأتي:

أولاً: ألّا يكون النشيد مشابهاً لألحان أهل الفسق من المغنين والماجنين، (ولقد شهدنا كيف تم السطو على الألحان الأكثر شيوعاً، في تأكيد على ضعف الذائقة، وفقر الإمكانات لديهم).

حاول الإسلاميون حصار كلّ مشاهد حياتنا بدعايتهم فتحوّلت الأفراح وأغاني الأطفال إلى بيانات سياسية

ثانياً: إن كان بصوت امرأة فلا يجوز للرجال الاستماع إليه، لقوله تعالى: {فلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، والنشيد إطراب وإمتاع ولحن جميل، (هذا الشرط أيضاً تم تجاوزه، وشهدنا دخول المرأة هذا المجال، واستمع لها الرجال دون حرج).

ثالثاً: أن يكون النشيد شعراً مباحاً، خالياً من كلمات الحب والغزل المهيج للشهوات (الحبّ لدى الإسلاميين هو الوجه الآخر للجنس، ومن ثمّ تصادر فطرة الإنسان لحساب تلك الرؤية المعتمة).

رابعاً: أن يكون النشيد بكلماتٍ طيبةٍ، منها ما يكون مشتملاً على الحكم والمواعظ، وما يرغب في الخيرات، ويدعو إلى مكارم الأخلاق (أتمنى أن يتصدّى الباحثون لرصد أثر تلك المواعظ التي تظهر النقيض عند الإسلاميين أنفسهم).

خامساً: ألّا يحتوي على آهات وتأوّهات، لتشابهها بالموسيقى، تخيّل، عزيزي القارئ، تلك الآهات محرَّمة لأنّ لها موسيقى! صادِروا إذاً خرير الماء، وصوت الريح، وحفيف الأوراق!

لقد انطبعت نفوس كثير من الإسلاميين بتلك القسوة، وجاء جفاف الطبع نتاجاً لذلك التصور المشوَّه لدور الفنّ في ترقية الوجدان، بعد أن تحوّلت الأغنية إلى مجرّد نشيد يفتقر إلى جمال اللفظ، أو المعنى، أو الصوت، أو اللحن، فقط مجرّد أداة تعبئة لحساب مشروع إخوانيّ مرةً، وسلفيّ مرةً، وجهاديّ مرةً.

تأمّلوا كيف يتغنّى ذلك الإرهابي بهذا النشيد أو ذاك، الذي يدّعي الانتصار للإسلام وقيمه، وهو يذبح بريئاً، أو يغتصب فتاة! ما طبيعة تلك النفس؟ وما ملامح هذا الوجدان؟

حاول الإسلاميون حصار كلّ مشاهد حياتنا بدعايتهم، فتحوّلت الأفراح وأغاني الأطفال، إلى بيانات سياسية وأيديولوجية، تكسر عنق الوجدان، وتزهّده في متع الحياة، وتصرفه عنها، وتمجّد الموت والقتل، لتعيد صياغة هذا الوجدان تحت عنوان "الفنّ الهادف"، ليكون المنتج، في النهاية، وجداناً سقيماً يقبل أيّة أفكار متهافتة، ويتعصّب لها بقوة، مدّعياً الانتساب إلى دنيا البشر.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية