النظام الإيراني يواجه أخطر أزمة في تاريخه

النظام الإيراني يواجه أخطر أزمة في تاريخه


03/12/2019

هشام ملحم

بعد شهرين من بدء الانتفاضة الشعبية في العراق ضد الفساد الاقتصادي والقمع السياسي، أعلن رئيس الوزراء عادل عبد الهادي عن استقالته يوم الجمعة، وذلك بعد قتل 50 متظاهر مدني في يوم واحد، لم يستحقوا منه ولو إشارة عابرة.

وقبل حوالي شهر في لبنان، أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري عن استقالته بسبب انتفاضة شعبية سلمية لم يشهد لبنان مثلها في تاريخه موجهة أيضا ضد الفساد الاقتصادي وضد طبقة سياسية إقطاعية ضيقة بعضها مرهون لإيران وسوريا.

في العراق، وإلى حد أقل في لبنان، كان النفوذ الإيراني الخانق من بين الأسباب الرئيسية التي فجّرت الانتفاضتين. في العراق، كما في لبنان، هناك شعور عام بأن الانتفاضتين، هما بداية تأسيس لاستقلال حقيقي من طغيان طبقة سياسية ـ دينية ـ اقتصادية تحتكر السلطة في البلدين، ولإخراج العراق ولبنان من الفلك الإيراني.

في هذا السياق أصبحت استقالة سعد الحريري وعادل عبد الهادي تطورا بسيطا لن يؤثر على المطالب الأساسية للانتفاضتين. وهذا يعني أنه إذا حاولت الطبقة الحقيقية الحاكمة في البلدين ومن يقف وراءها، المجيء بقناعين جديدين لتغطية الوجهين البشعين للحكم في البلدين فإن ذلك سيؤدي على الارجح إلى تأجيج الانتفاضتين أكثر.

وفي مفارقة لافتة، انتقلت شرارة الانتفاض أو التمرد ضد الفساد واحتكار السلطة وطغيانها من العراق ولبنان إلى إيران قبل أكثر من أسبوعين. نزل الإيرانيون إلى شوارع مدنهم وبلداتهم في السنتين الماضيتين ليواجهوا هراوات ورصاص الشرطة والحرس الثوري، وإن كانت هذه التظاهرات لم ترق إلى مستوى الحركة الاحتجاجية الشعبية في 2009 بعد تزوير الانتخابات الرئاسية، والتي قمعها الحرس الثوري و"زعران" النظام بعنف سافر.

ولكن العنف الوحشي الذي استخدمه الحرس الثوري خلال الأسبوعين الماضيين، والذي بدأ العالم الخارجي يتعرف عليه في الأيام الماضية عبر التقارير الصحفية وروايات شهود العيان، ووسائل الاتصال الاجتماعي، غير مسبوق، لأنه يعكس قناعة النظام الديني في طهران بأن هذه الانتفاضات الشعبية في "المركز" الإيراني و"المحيط" العربي تشكل خطرا وجوديا عليه لم يعهده في حكمه المستمر منذ 40 سنة.

ما يمكن قوله بدرجة عالية من الثقة، هو أن السخط الشعبي في العراق وإيران ولبنان سوف يبقى في حالة مد وجذر، ولكنه لن يتوقف، لأن الأسباب البنيوية التي فجرته لا تزال موجودة ولن يتم احتواءها في أي وقت قريب، أي الأزمات الاقتصادية العميقة والشاملة، والهياكل السياسية المترهلة والمتخلفة التي تحتكر القرارات دون محاسبة أو مسائلة في الدول الثلاثة.

هذه الحقائق الاقتصادية والسياسية هي التي دفعت بالمتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع والساحات في البداية احتجاجا على قرارات اقتصادية وضرائبية مجحفة، إلى تصعيد مطالبهم وتطوير أهدافهم بسرعة مفاجئة لتشمل سلسلة مطالب سياسية بامتياز، ربما كانت العبارة اللبنانية الجميلة والمعبرة "كلّن يعني كلّن" هي أفضل تلخيص عملي لمطالب الانتفاضات الثلاثة.

في بيروت رفع المتظاهرون العلم العراقي مع العلم اللبناني. وفي مدن لبنان والعراق رفعت شعارات مماثلة، على خلفية استخدام ذكي وفعّال من المتظاهرين لوسائل الاتصال الاجتماعي.

في إيران كان الحرس الثوري هو رأس الحربة لضرب المتظاهرين المدنيين، وفي العراق استخدمت بعض ميليشيات "الحشد الشعبي"، التي تسلحها إيران ويديرها، عملاؤها العنف السافر ضد المتظاهرين.

أما في لبنان، فقد قامت ميليشيات "حزب الله" و"حركة أمل" التي تمثل ذراع إيران في لبنان بتهديد وترهيب المتظاهرين والاعتداء عليهم وتخريب خيمهم، وركزت قمعها على المناطق التي تسكنها أكثرية شيعية، بعد أن فوجئت بأن "قاعدتها" غير راضية على الوضع الراهن.

استقالة الحريري وعبد الهادي، فرضت ضغوطا جديدة على البرلمانين العراقي واللبناني، وذلك في الوقت الذي يؤكد فيه المتظاهرون في البلدين عدم ثقتهم بالمجلسين ومطالبتهم بتغيير قوانين الانتخابات لتفادي ظاهرة الانتخابات والمحاصصة التي تجلب القوى والوجوه والعائلات ذاتها، وبالتالي المساومات والاتفاقات ذاتها التي تطبخ وراء الأبواب المغلقة.

وهذا ما يفسر معارضة المتظاهرين في لبنان والعراق إجراء انتخابات وفق القوانين المجحفة الراهنة. وهذا يعني أن عملية تشكيل حكومة جديدة في العراق سوف تستغرق وقتا طويلا.

عملية تشكيل حكومة عبد الهادي في 2018 تطلبت مداولات ومساومات طويلة وتدخل إيراني مباشر وقوى لصالح عادل عبد الهادي ـ ومباركة أميركية ـ قبل الموافقة على صيغة جلبت عبد الهادي إلى رئاسة الحكومة، وبرهم صالح إلى رئاسة الجمهورية، ومحمد الحلبوسي لرئاسة البرلمان.

وليس من المبالغة القول إنه لا إيران ولا الولايات المتحدة كانت تريد استقالة عبد الهادي. ولعبد الهادي علاقات قديمة ومتشعبة مع إيران التي ساعدته مع غيره من السياسيين العراقيين الذين لجأوا إليها خلال معارضتهم لنظام صدام حسين.

ووفقا لوثائق الاستخبارات الإيرانية التي نشرتها مؤخرا صحيفة "نيويورك تايمز" مع الموقع الإلكتروني The Intercept فإن إيران كانت تساعد عادل عبد الهادي قبل وبعد ترأسه للحكومة العراقية.

وعلى الرغم من تدخل إيران المباشر، من خلال قائد فيلق القدس قاسم سليماني لاحتواء الانتفاضة، إلا أنه سيكون من الصعب على إيران هذه المرة التدخل في العملية السياسية في العراق، وهي التي ساهم نفوذها السلبي والخانق في تفجير الانتفاضة، التي أدت إلى الصرخة الجماعية للمتظاهرين: "إيران، بره، بره، بغداد تبقى حرة".

قبل سنوات تحدث العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني عن ظاهرة غير صحيحة، أو على الأقل فيها مبالغة كبيرة، وهي "الهلال الشيعي" في إشارة إلى الامتداد الشيعي من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان، في منطقة جغرافية على شكل هلال من الخليج إلى المتوسط.

ساهمت هذه العبارة في تعميق الاستقطابات السنية ـ الشيعية، وإن استغلتها ضمنا إيران والقوى المتعاملة معها. الانتفاضة العراقية، أوضحت بشكل لا لبس فيه أن هناك "ثقب" كبير في هذا الهلال الشيعي إذا افترضنا أنه موجود بالفعل.

العراقيون الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية، يتظاهرون كمواطنين عراقيين، وليس كشيعة، ومن هنا مطلب "نريد وطنا". التظاهرات ضد المؤسسات التي تمثل إيران أو تملكها إيران أو حلفائها السياسيين كانت منذ بداية الانتفاضة دليلا واضحا على أن شيعة العراق لديهم رؤى وأهداف تختلف عما تريده أو تمثله إيران ذات الأكثرية الشيعية.

وفي هذا السياق يجب النظر إلى حرق القنصلية الإيرانية في قلب مدينة النجف الشيعية ـ بعد أكثر من محاولة ـ على أنه تطور نوعي له أبعاد سياسية ورمزية سوف تبقى تردداتها مستمرة لوقت طويل.

في بيروت، القوى التي تمثل النفوذ الإيراني في لبنان، وخاصة "حزب الله" رفضت استقالة الحكومة، وهي الآن مع حلفائها في التيار الوطني تمثل العقبة الأكبر في وجه التغيير الذي لا يزال يطالب به الشعب اللبناني في الشهر الثاني لانتفاضته.

ولا يتصرف سعد الحريري وكأنه رئيس حكومة تصريف أعمال، بينما يواصل رئيس الجمهورية ميشال عون الاستخفاف بالقوانين والأعراف من خلال رفضه إجراء المشاورات الضرورية لتشكل حكومة جديدة وذلك على خلفية تعليق الحياة البرلمانية من قبل رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يتعامل مع البرلمان وكأنه شركة خاصة يملكها كليا.

وليس مستغربا أن يكون التخلص من البرلمان الحالي في لبنان بتركيبته الطائفية العقيمة مطلبا للمتظاهرين.

لا أحد يعرف بدقة عدد القتلى الذين سقطوا بنيران الحرس الثوري في إيران خلال تظاهراتهم الاحتجاجية. صحيفة "نيويورك تايمز" تحدثت عن مقتل 180 مواطن على الأقل "وربما المئات". وفي تقرير مفصل نشرته يوم الأحد نسبت الصحيفة إلى شهود عيان قولهم إنه خلال ثلاثة أيام في منتصف الشهر الماضي جرت حوادث قتل جماعي أدت إلى سقوط 130 متظاهر في مدينة ماهشهر في جنوب البلاد وهي منطقة تسكنها أغلبية من المواطنين من أصل عربي.

المسؤولون الإيرانيون، وكذلك وكلاؤهم وعملاؤهم في العراق ولبنان يتحدثون عن تدخل أجنبي ومؤامرات تحيكها السفارات الغربية في تفسيرهم لهذه الظاهرة الشعبية التي يواجهونها في إيران والعراق ولبنان والتي لا يعرفون كيف يتعاملون معها إلا بالعنف.

استمرار الانتفاضات في إيران والعراق، واستمرار قمعها بالقوة في البلدين، سوف يفرض على الأمم المتحدة، والأهم من ذلك على الدول الأوروبية والولايات المتحدة ـ خاصة وأن العقوبات الاقتصادية الأميركية لعبت دورا هاما في إيصال الاقتصاد الإيراني إلى طريق مسدود كليا ـ تنسيق المواقف والتحرك سياسيا لمنع حدوث عنف أشرس من قبل السلطات الإيرانية والعراقية.

وعلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التحدث بصوت واحد والتصدي لأي محاولات تقوم بها السلطات العراقية والإيرانية للتعتيم على ما يجري في البلدين، والسعي لفرض عقوبات اقتصادية ضد القادة المدنيين والعسكريين المسؤولين مباشرة عن القمع.

يبيّن سجل النظام الديني المتشدد في إيران أنه لن يتردد في استخدام العنف، وحتى العنف المفرط للحفاظ على النظام، وهذا يقلص من احتمالات انهيار النظام في طهران، بطريقة سلمية كما حدث مع انهيار نظام الاتحاد السوفياتي، الذي حصل من دون حدوث عنف كبير كما كان يتوقع معظم المراقبين.

ولكن استمرار الأزمة الاقتصادية في إيران، وتوسع الانتفاضة الشعبية، يمكن أن يؤديا إلى بروز عوامل جديدة تزيد من صعوبة استخدام العنف الجماعي لحماية النظام. وفي هذه الحالة لن يكون هناك عذر للولايات المتحدة ولحلفائها الأوروبيين بأنها لم تكن مستعدة للتحديات التي سيفرضها أي تغيير سياسي في إيران، لأن ذلك ستكون له مضاعفات تشمل تلك المنطقة الكبيرة الواقعة بين البصرة وبيروت.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية