النظام العالمي ما بعد "الجائحة"

النظام العالمي ما بعد "الجائحة"


18/01/2022

سالم سالمين النعيمي

أدخل فيروس كورونا ومتحوراته الاقتصاد العالمي في ركودٍ عميق وغموض أعمق، كما وسّع حيز عدم المساواة والعدالة في نوعية الحياة التي تعيشها وستعيشها شعوب العالم، وأربك القوى الكبرى التي أصبح بينها تباعد كبير في تبنّي مفاهيم مقبولة بينها لترقية وتحديث المبادئ والمفاهيم والنظم، ودور التكتلات والتحالفات والمؤسسات الدولية من أجل نظام عالمي جديد، بعد أن تحولت سياسات بعض الدول الكبرى لسياسات دفاعية قومية أحادية، بينما تفتقد القوى الناشئة إلى القدرة الاستراتيجية، أو الإرادة السياسية للعب دور أكبر في ظل ما تمر به من أزمات متتالية، مع غياب استجابة عالمية منسّقة للتغلب على الفيروس، واستمرار سياسات المواجهة بدلاً من السياسات التكاملية بين القوى الكبرى والتي ستعقد الانتقال السلمي إلى نظام عالمي جديد.
لقد انتهى عصر الهيمنة الغربية المدعوم بالأولوية العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، وبدعم من المؤسسات العالمية التي تخدم قوتها وأهدافها، وبروز نظم إقليمية للتعاون العالمي تتداخل فيها أدوار القوى الكبرى والناشئة، ولا توجد دولة منفردة لديها القدرة على تشكيل النظام العالمي الذي يخدم مصالحها فقط فوق مصالح بقية القوى.
وأصبح للقوى العالمية الكبرى والقوى الناشئة والقوى الإقليمية مراكز مادية وافتراضية، وهي تمنهج التعددية بمشاركة لاعبين صغار جعلوا حدودهم مشتركة مع مراكز مصالح تعد حيوية لمصالح الآخرين، وربطها معها من خلال ارتباطية المصالح القومية بين الدول في لامركزية متعددة ذات رسائل متناثرة تختلف في اللغة والأسلوب وليس المضمون.
كما أن النظام العالمي يمر بتحول بطيء وثابت أدى إلى صعود الحركات القومية، والمشاعر الانفصالية، وقوى نزع العولمة، والافتقار إلى الإيمان بالتعددية، والخروج عن القواعد الراسخة للمشاركة العالمية، وتلقائياً تصاعد التنافس بين القوى العظمى والدول العالقة بينها، وهو ما يؤكد أن هذه «الجائحة» تعتبر لحظةً فاصلةً في تاريخ البشرية، ومحوراً مؤثراً على الجغرافيا السياسية والتعددية، والجغرافية الاقتصادية، والتكنولوجيا الجيولوجية، وهو يدفع الجهات الفاعلة العالمية إلى التدافع نحو المجهول، وخاصةً فيما يتعلق بسلاسل التوريد والعلاقات التجارية والاقتصادية، والانحدار الهائل في التجارة العالمية، وهبوط حاد في أسهم العولمة الاقتصادية، مقابل المزيد من الاقتصادات الوطنية التي تتطلع إلى الداخل، وهو تناقض حاد مع الحالة الطبيعية للأمور وفق رؤية العالم المترابط.
ولفتت «الجائحة» الانتباه إلى مخاطر تواجه الاقتصادات الناشئة، ونجاح محدود لمساعي «دبلوماسية القناع» من خلال الموارد المسخّرة لقيادة الدبلوماسية الطبية.
ومن المرجح أن تؤدي «الجائحة» إلى تحويل العديد من البلدان إلى اتباع نوع مختلف من النظام العالمي - نظام يعكس مراكز سلطة متعددة- وتحول متوقع في مركز الثقل الجيوسياسي الأساسي بدلاً من تأمين النفوذ من خلال الإكراه، وتحالفات ديمقراطية قوية وشراكات ومؤسسات وقواعد متعددة الأطراف، وستشكك الشعوب في مفهوم الديمقراطية، خاصةً بعد موجة صعود القوى اليمينية المتطرفة في جميع قارات العالم إلى السلطة، وهو ما قد يتفاقم في السنوات الخمس القادمة، وخاصةً في القارة الأوروبية، وصعود محتمل لموجة قومية أفريقية وتنافس شرس على ثروات القارة.
ومن جانب آخر فقد غيّر «كوفيد -19» خريطة الدول ذات الجاذبية الأكبر لبقية العالم، وهو ما سيرتبط بهجرة الشباب في العالم في السنوات القادمة لمناطق غير تقليدية، كهجرة الشباب الأوروبي على سبيل المثال والذي سيتجه للشرق الأوسط وآسيا، وذلك بعد النظام العالمي الحالي الذي يحتضر ويعتبر ميتاً إكلينكياً، ومجمع من الأنظمة والعولمة الدولية المتقاطعة إن لم تكن متنافسة. و«الجائحة» تسرّع من تطور هذا العالم متعدد الاتجاهات بدلاً من الأقطاب، ولم يعُد بإمكان منظمة التجارة العالمية فرض قواعد التجارة، ولم يعُد صندوق النقد الدولي قادراً على ضخ السيولة، خوفاً من سرعة الصعود من أعداء ومنافسين من يسيطرون بدورهم على الصندوق وغيره من المؤسسات الأممية.

عن "الاتحاد" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية