النظام العالمي ولاعبوه الجدد

النظام العالمي ولاعبوه الجدد


28/04/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

هناك عمليّات إعادة تنظيم كبيرة تحدث في أنحاء العالم كافّة، يبدو أنّ التّحالفات القديمة تعاني إجهاداً أو كسوراً صريحة، بينما تُولَد تحالفات جديدة، يمكن للتّعليقات الإعلاميّة على هذه التّطوّرات، أيضاً، أن تأخذ في بعض الأحيان نظرة مجهريّة، مركّزةً على نزاعات فرديّة أو تغيير تحالفيّ من دون سياق تاريخيّ. من خلال النّظر إليها من خلال هذه العدسة قصيرة النّظر، تُعرض التحوّلات التي تحدث في بعض الأحيان بعبارات دراميّة للغاية.

ومع ذلك، إذا أخذنا خطوة إلى الوراء ونظرنا من خلال عدسة التّاريخ طويلة النّظر، فإنّنا نرى أنّ القرن الماضي، بالعكس، اتّسم بالتّقلّبات والانعطافات المذهلة للدّول وكتل القوى التي تطوّرت من نهاية الحرب العالميّة الأولى حتّى يومنا هذا.

في ضوء ذلك، فإنّ التّغيير الذي نشهده ليس نهاية "قِياميّة" لـ "نظام عالميّ" مقدّس (خاصّة أنّ هذا "النّظام العالميّ" لم يكن موجوداً إلّا لعقود قليلة). بالأحرى، ما نراه هو مجرّد إعادة ترتيب أخرى للدّول على أساس الأولويّات المتطوّرة والوقائع المتغيّرة. ولعلّ نظرة على القرن الماضي تكون مفيدة.

انتهت الحرب العالميّة الأولى بأوروبا الغربيّة قوّةً صاعدة. في "مؤتمر سان ريمو"، عام 1920، قسّمت هذه الدّول بغطرسة فيما بينها "غنائم" تلك الحرب، وعزّزت سيطرتها على جزء كبير من آسيا، وأفريقيا، والشّرق الأوسط. الولايات المتّحدة، التي انسحبت من هذه الإجراءات، تُركت باعتبارها القوّة المهيمنة في نصف الكرة الغربيّ، مع امتدادات لـ "إمبراطوريّتها" في المحيط الهادئ.

"حرب لإنهاء الحروب كافّة"

أُطلق على تلك الحرب اسم "حرب لإنهاء الحروب كافّة"، أسهمت ثلاثة عوامل في تفكيك نظام ما بعد الحرب العالميّة الأولى على النّحو الذي أدّى إلى الحرب العالميّة الثّانية: ساعدت المصاعب الاقتصاديّة القاسية المفروضة على ألمانيا في تأجيج ردّ فعل قوميّ متطرّف أدّى إلى نظام عدوانيّ وعنصريّ عازم على الانتقام، وأرست الثّورة الشّيوعيّة، التي بدأت في روسيا، الأساسَ لصعود الاتّحاد السّوفيتي، وأدّى النموّ السّريع ليابانٍ صناعيّة، إلى جانب احتضانها اتجاهاً قوميّاً دينيّاً، إلى السّعي وراء نفوذ أكبر في المحيط الهادئ.

الرئيس الأمريكي جو بايدن في غرفة روزفلت بالبيت الأبيض بواشنطن الأسبوع الماضي

تركت نهاية الحرب العالميّة الثّانية القوى الأوروبيّة الغربيّة السّابقة في حالة ضعيفة - اقتصاداتها في حالة يُرثى لها، وتعتمد على الدّعم والسّخاء الأمريكيَّين. ومع انتصاراتها الحاسمة على ألمانيا النّازيّة واليابان، واقتصادها المتوسّع، خرجت الولايات المتّحدة من الحرب بدور أقوى كقائدة للغرب.

في الوقت نفسه، تحرّكت روسيا السوفيتيّة بسرعة لتعزيز سيطرتها على بلدان أوروبا الشّرقيّة التي دمّرتها ألمانيا النازيّة. ومع انهيار الإمبراطوريّات الاستعماريّة في الغرب، تسارعت وتيرة زوالها بسبب الدّعم السّوفييتيّ لـ "حركات التّحرّر الوطنيّ" التي أدّت في غضون عقود قليلة إلى استقلال الدّول عبر أفريقيا وآسيا وظهور "حركة عدم الانحياز"، والتي على الرّغم من معاداتها للغرب وظيفيّاً، فإنّها لم تنتسب من النّاحية التّقنيّة إلى أيّ من القوّتين العظميين.

النّظام العالميّ تحت سيطرة قوّتين

منذ خمسينيّات القرن الماضي فصاعداً، ولمدّة ثلاثة عقود على الأقلّ، كان النّظام العالميّ تحت سيطرة هاتين القوّتين المهيمنتين؛ الولايات المتّحدة واتّحاد الجمهوريّات الاشتراكيّة السّوفيتيّة، اللتين انخرطتا في حرب باردة تميّزت غالباً بصراعات "ساخنة" خاضها وكلاء لصالح هاتين القوتين. خلال هذا الوقت نفسه، عانت كلّ من الولايات المتّحدة والاتّحاد السّوفيتيّ هزائم مُذلّة ومُرهِقة، الولايات المتّحدة في فيتنام والسّوفييت في أفغانستان، أضعفت دور كلّ منهما لكنّها لم تنهِه تماماً.

بينما تكافح أمريكا لفرض نفسها في مناطق من العالم حيث يتضاءل نفوذها، قامت الصّين باستثمارات كبيرة في هذه البلدان نفسها في آسيا، والمحيط الهادئ وأفريقيا، ونصف الكرة الغربيّ

عندما انهار الاتّحاد السّوفيتيّ، في نهاية الثّمانينيّات من القرن الماضي، ظهرت الولايات المتّحدة لبعض الوقت كقوّة عسكريّة واقتصاديّة مهيمنة في العالم. استمرّ ذلك لعقد من الزّمان حتّى أدّت الغطرسة الأمريكيّة إلى تفكّكها، وأدّى قرار إدارة بوش بغزو واحتلال أفغانستان والعراق، بُغية إظهار القوّة الأمريكيّة والدّخول في توسّع "للدّيمقراطيّات الّليبراليّة الموالية للولايات المتّحدة" عبر الشّرق الأوسط، إلى نتيجة معاكسة.

بدلاً من تأمين "قرن أمريكيّ"، تركت تلك الحروب الولايات المتّحدة منهَكة ومحبَطة، وبدلاً من تعزيز دور أمريكا المهيمن في "النّظام العالميّ الجديد"، ولّدت تلك الحروب استياءً من الغطرسة الأمريكيّة وانتهاكات القانون الدّوليّ، ممّا أدّى إلى نموّ حركات متطرّفة.

 كما شجّعت هذه الحروب قوى عالميّة (دول "بريك"، البرازيل، وروسيا، والهند، والصّين)، وقوى إقليميّة (إيران، وتركيا، وإسرائيل، ودول الخليج العربيّ) على بسط نفوذها دفاعاً عن مصالحها.

وصلت قافلة من مركبات مشاة البحرية الأمريكية إلى شمال العراق خلال عاصفة رملية في مارس 2003

الانسحاب الأمريكيّ المُهين من أفغانستان وحرب روسيا الآن مع أوكرانيا كشفا ملامح جديدة في النّظام العالميّ المتغيّر. في حين أنّ الولايات المتّحدة والعديد من حلفائها في أوروبا الغربيّة فرضوا عقوبات تأديبيّة على روسيا، تصدّت روسيا لهذه العقوبات من خلال المطالبة بتداول صادراتها الكبيرة من الوقود والحبوب بالرّوبل الرّوسيّ، ممّا يعزّز قيمة عملتها. والعديد من الدّول، بما في ذلك حلفاء أمريكا، في آسيا وأفريقيا والشّرق الأوسط، إمّا لم يوافقوا على معاقبة روسيا أو يدعموا حربها في أوكرانيا.

"العملاق النّائم"

وفي حين أنّ الولايات المتّحدة وروسيا تستنزفان نفسيهما وتستنزفان رأسمالهما السّياسيّ في حروب لا تستطيعان الانتصار فيها، فقد حدث تطوّرٌ مهمّ آخر، إذ أصبحت الصّين ببطءٍ عملاقاً اقتصاديّاً، نتيجة عقود من تصدير الصّناعة، والوظائف، والتّكنولوجيا الأمريكيّة إليها، وبينما تكافح أمريكا لفرض نفسها في مناطق من العالم حيث يتضاءل نفوذها، قامت الصّين باستثمارات كبيرة في هذه البلدان نفسها في آسيا، والمحيط الهادئ وأفريقيا، ونصف الكرة الغربيّ. بالتّالي؛ فإنّ الصّين، التي كانت تسمّى ذات يوم "العملاق النّائم"، ظهرت بهدوء ومن دون مواجهة كقطب مؤثّر جديد في نظام عالميّ جديد قيد التّشكّل.

فرضت الولايات المتّحدة وحلفاؤها عقوبات تأديبيّة على روسيا، التي تصدّت لهذه العقوبات من خلال المطالبة بتداول صادراتها الكبيرة من الوقود والحبوب بالرّوبل الرّوسيّ

في كلّ مكان ننظر إليه، تُشكَّل تحالفات جديدة اعترافاً بديناميكيّات القوّة المتغيّرة بسرعة. شكّلت البلدان التي اعتمدت على الولايات المتّحدة في الأمن والاستثمار تكتّلات جديدة في سعيها لتحقيق مصالحها الوطنيّة. وهناك اتفاقيّات تجاريّة في آسيا تتمحور حول الصّين. وفي الشّرق الأوسط، وقّعت بعض الدّول العربيّة اتّفاقيّات واسعة النّطاق، مع إسرائيل والصّين والهند، وقد رفضت العديد من دول "البريك" الالتزام بالعقوبات الغربيّة ضدّ روسيا.

ما تزال لدى الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيّون أصول اقتصاديّة وسياسيّة هائلة، وسيكون من الحماقة اعتبارها خارج اللعبة، لكن من الواضح أنّ اللعبة التي تتكشّف ليست هي نفسها التي كانت قبل عشرين عاماً. هناك نظام جديد آخذ في الظّهور، وليس هناك يقين بشأن الشّكل الذي سيبدو عليه بعد عشرين عاماً من الآن. وهذا لا ينبغي أن يكون مفاجئاً: توضح أية مراجعة لتقلّبات القرن الماضي وانعطافاته أنّه، على الرّغم من الغطرسة المتمركزة إثنيّاً أو الغطرسة الأيديولوجيّة لأولئك الذين هيمنوا في أوقات مختلفة، فإنّ التّغيير هو الثّابت الوحيد.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

جيمس زغبي، ذي ناشونال، نيسان (أبريل) 2022


مواضيع ذات صلة:

النظام العالمي ما بعد "الجائحة"

النظام العالمي وتوابع ما بعد أفغانستان

ما مستقبل المشروعين التركي والإيراني في المنطقة مع النظام العالمي الجديد؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية