الهنود الحمر: طقوس تتماهى مع الطبيعة

الهنود الحمر

الهنود الحمر: طقوس تتماهى مع الطبيعة


25/03/2018

 

قبيل قدوم الغزاة البيض العام 1492 إلى ما يعرف اليوم بقارة أمريكا الشمالية، أو الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هذه القارة مأهولة بسكانها الأصليين، الذين توزعوا على قبائل مختلفة، وعديدة، عرفها العالم أكثر ما عرف، من خلال ثقافة وفنون الغزاة الذين قاموا بإبادتها، في تصرف عدائي قلّل من قيمة ثقافتها ومعتقداتها، ولم يحفل حتى ببقائها على وجه الوجود.

 

قبل قدوم الغزاة البيض عام 1492 إلى ما يعرف اليوم بقارة أمريكا الشمالية كانت هذه القارة مأهولة بسكانها الأصليين

حرية المعتقدات

وبمرور سنواتٍ طويلة، عانى فيها سكان أمريكا الأصليين الإبادة والتهجير والاستعباد، حتى أصبحوا يشكلون اليوم قرابة 1.7% فقط من سكان الولايات المتحدة، فإنّ ما يتعلق بمعتقداتهم لم يكن مدوناً في الزمن الذي سبق اكتشاف واحتلال أراضيهم، وكانوا يتمتعون بحرية المعتقدات وتنوعها، وارتكازها على الممارسة الفردية وتعظيم الطبيعة والتواضع أمامها.

غياب التدوين أو كتاب مقدس بعينه منح السكان الأصليين القدرة على التخيل والتأويل

غياب التدوين، أو وجود كتاب مقدس بعينه، منح السكان الأصليين القدرة على التخيل، والتأويل، أكثر مما هو ممكن في الديانات التي تستند إلى نصوصٍ ثابتة، وإن كان "الهنود الحمر"، أو ما تبقى منهم اليوم، يقولون إنّ ما توارثوه من معتقداتٍ وتقاليد، لا يرقى برأي بعضهم، وبرأي المتخصصين، إلى مستوى الديانات، فإنّ هذه الميزة المتمثلة بـ "انعدام النص كمرجعية"، جعلت معتقداتهم تخلو من مرجعياتٍ أخلاقية أيضاً.

كذلك، لم يمنح هذا الفرصة لصدور قوانين تنبثق عن هذه المعتقدات، كمعاملاتٍ اجتماعية، أو مفهوم العدالة، أو العقوبات، على الأقل بأشكالها المعروفة لدى أصحاب الديانات السماوية مثلاً، مما جعل فرص قيام أي صراعٍ على أساس الدين في المجتمعاتِ القبلية التي لم تكن معتقداتها موحدة معدوماً، ولم تكن المعتقدات أبداً، الدافع الأساسي أو الوحيد لأي حروبٍ أو اقتتال تركز ربما على مناطق الصيد والنفوذ أحياناً.

كانوا أقرب إلى مخلوقات الطبيعة نفسها، التي تحدد بدورها مناطق سكنها وصيدها

حرية المكان والزمان

البحث فيما وراء الطبيعة، وأسبابها، وظواهرها، إضافة إلى الإنسان وأسباب وجوده من خلال علاقته بالطبيعة، هي محور هذه المعتقدات مهما تنوعت من قبيلة لأخرى، كقبائل "الشيروكي" و "بيمان"؛ حيث يعتقد أصحابها أنّ البحار والأنهار والأشجار والحيوانات جميعها، هي موجوداتٌ أسطورية، لا تكمن قيمتها في أشكالها الخارجية فقط، أو في الفائدة التي تقدمها للإنسان، بل لها أبعادٌ مخفية، ومكنونات عميقة، تحتاج إلى من يعتقد بها حتى تمنحه أسرارها والقدرة على التحكم بها أحياناً.

انعدمت فرص قيام صراعٍ على أساس الدين في المجتمعاتِ القبلية التي لم تكن معتقداتها موحدة

هذا "التقديس" للطبيعة، إن صح التعبير، جعل معتقدات "الهنود الحمر" لا تحتاج إلى صروح مبنية؛ إذ لم يتركوا بعد اندثار معظمهم، أي معالم دينية، وذلك لأن المكان عندهم، كان مفتوحاً، وممتداً بين الأرض والسماء؛ حيث يصلح كل ما بينهما لممارسة طقوسهم، وظل المكان مهماً بالنسبة لديهم بشأن تحديد أماكن عيشهم، وصيدهم، كانوا أقرب إلى مخلوقات الطبيعة نفسها، التي تحدد بدورها مناطق سكنها وصيدها.

وبحرية المكان والزمان من أي قيود واضحة يحددها نص ديني أو كاهن ينطق باسم الدين أو الإله، فإنّ طقوسهم بدت حرة مثل؛ الطبيعة وتبدلاتها ورموزها الكبرى مما جعلهم "يعبدون" أو يمجدون مظاهر الطبيعة كالرياح والبرق والرعد، كما رقصوا للكواكب والنجوم - خاصة الشمس- و أقاموا لها الاحتفالات الصاخبة كي تمنحهم الحياة الطويلة والسعادة.

يحمل ريش الطيور معاني مهمة لديهم

تناغم مع المحيط

وكان من عادة الهنود الحمر أن يقوم كبار السن منهم و"الأكثر حكمة" بالبقاء عدة أيام دون طعام أو شراب في بقعة منعزلة في العراء وهم يرتدون أثواباً مزركشة، ويمارسون الطقوس حسب معتقداتهم، التي تشمل التلويح بالرماح التي يعلوها الريش الملون وإشعال النيران في حزم الخشب، والتحكم في الدخان المتصاعد ليبعث رسالة إلى الفضاء.

وتعد رقصات الهنود الحمر صاخبة، وتعبر أيضاً عن أحداث حياتهم وأساطيرهم حول قدسية عالمهم المتوحد مع الطبيعة، وفنونهم بشكل عام، ترجمة لمعتقداتهم المتناغمة مع محيطهم والمسخَّرة للسيطرة على مخاوفهم من الأرواح الشريرة.

تقديس الهنود الحمر للطبيعة جعل معتقداتهم لا تحتاج إلى صروح فلم يخلفوا أي معالم مبنية

كما يحمل ريش الطيور معاني مهمة لديهم، فهو طارد الأرواح الشريرة، التي ربما تتمثل في الحيوانات المفترسة أو تقلبات الطبيعة العنيفة في أحيان أخرى، ولريش الطيور حضور قوي وملفت في زينتهم ، فهو تارة غطاء يوضع حول الجبين يصل إلى الخصر، ويلبس في بعض الطقوس والمناسبات، أو يتكون من ريشة واحدة، أو أكثر، تربط بشريط جلدي يوضع حول الرأس ويلبس في الأوقات الاعتيادية، وتارة  يأخذ الريش أشكالاً تعلق على الجدران، والغرض منها طرد الأرواح الشريرة، وجلب السعادة والحظ، وذلك حسب ألوانها وأنواع الطيور التي اخذت منها، ومن الريش ايضاً تصنع مراوح لإشعال النار.

وباء الحضارة الجديدة

وبصورة عامة، فإن فنونهم وتقاليدهم، رقصاتهم لأجل الطبيعة ومخلوقاتها وظواهرها، تشكل مجموعة الطقوس التي يمارسونها، كما إنهم يتمتعون بمساحة واسعة من الحرية والتجدد؛ إذ إنّ هذه الصفات هي صفات معبودتهم نفسها "الطبيعة"، والإنسان لديهم، متواضع أمامها، وبسيط، يحاول التشبه بما حوله أكثر مما يقوم بأنسنة الأشياء.

بتحررهم من أي قيود واضحة يحددها نص ديني أو كاهن فإن طقوسهم بدت حرة مثل الطبيعة

واليوم، ربما اندثر مبدأ احترام الحياة وموجوداتها، بالطريقة التي كان يمارسها "الهنود الحمر"، الذين يعيش 78% منهم الآن في الولايات المتحدة حياة المجتمع الأمريكي كما هو عليه الآن، وبعضهم اعتنق المسيحية، وآخرون، يوصفون أنهم "وثنيون"، بينما ما تبقى منهم، يعيش في "محميات"، ويتمتع بحكم ذاتي، إلا أن التقارير والمقالات التي تنشر في الصحف الأمريكية، تتحدث عن ارتفاع نسب البطالة والجريمة وتعاطي المخدرات في تلك "المحميات"، وهو ربما، وباء الحضارة، التي جلبها معه المحتل إلى العالم الجديد، أو مثلما يقول الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز: "قبل أن توجد حكومة، ورجل دين، لم يكن هنالك أوبئة في هذا العالم".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية