الوجود السوري بمصر.. اشتباك تاريخي وثقافي يعيد نفسه

الوجود السوري بمصر.. اشتباك تاريخي وثقافي يعيد نفسه


17/06/2019

تحت وسم "السوريين منورين مصر"، قاد رواد وسائل التواصل الاجتماعي حملة دعم السوريين المقيمين في مصر، كنوع من ردّ الاعتبار الشعبي، في إطار الجلبة التي أثارها أحد الجهاديين السابقين، عقب كتابته منشوراً على صفحته الشخصية، يدّعي فيه، أنّ بعض الاستثمارات السورية في مصر "مشوبة بعمليات غسيل أموال بعض الجماعات الإرهابية".
وفي السياق ذاته، رفع أحد المحامين مذكرة إلى النائب العام، مطالباً بوضع الاستثمارات السورية تحت الرقابة القانونية، ورصد تحركاتها، وفحص كيفية إعادة استخدام أرباحها.

اقرأ أيضاً: تركيا والنظام و"قسد".. مَن الأقرب إلى كسب العشائر السورية؟
وبصرف النظر عن صحة تلك الدعاوى من عدمها، وحق كل دولة، من منطلق وظائفها السيادية، في التحقق منها، لاعتباراتها الأمنية والحمائية، إلا أنّ الوجود السوري ونجاحه الاقتصادي في مصر ذو تاريخ قديم، وبين مصر والشام ذاكرة مشتركة، حتى لا يمكن تأريخ مصر الحديثة دون إغفال دور "الشوام"، سيما في مجال إنتاج الثقافة ونشأة البيروقراطية وتكوين الثروات.

في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني انتعشت مسألة الجدل حول القومية والوحدة العربية لتعزيز ذلك الاستقلال

 كانت سوريا الطبيعية، أو بلاد الشام، وحتى بداية القرن التاسع عشر، مقسمة تنظيمياً، إلى أربع ولايات عثمانية، ضمت: دمشق وحلب وطرابلس وعكا، وفي إطار توسعات الدولة المصرية في عهد محمد علي، توحدت لعدة أعوام، تحت حكم ابنه إبراهيم باشا، إلى أن انحصرت تلك التوسعات، وعاد العثمانيون، العام 1841، وقد تأثرت تلك المنطقة وتقطعت أوصالها جراء تفكّك الدولة العثمانية، وتوسع النفوذ الأوروبي الاستعماري، الذي بلغ ذروته في اتفاقية سايكس بيكو، العام 1916، ومرحلة الانتداب الفرنسي والإنجليزي، عدا أنّها عانت من السياسات العثمانية التعسفية، سيما في عهد السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909)، كذلك تعرض جبل لبنان لحالة ركود تجاري، عقب افتتاح قناة السويس (1869)؛ نظراً لاستيراد الحرير الصيني والهندي عبر القناة على حساب الحرير اللبناني.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة إعادة سوريا علاقاتها مع حركة حماس؟
جميعها عوامل جعلت بلاد الشام، آنذاك، منطقة طرد للكفاءات والطموحين للثراء، وكذلك من تقطعت أرزاقهم، وعانوا من الحروب الطائفية والسياسية المستمرة، بحثاً عن ملاذ آمن أو حاضنة اجتماعية واقتصادية أخرى، يمكنهم من خلالها العيش بسلام، وتكوين ثروات بديلة، في حين كانت مصر، منطقة جذب متميزة، نظراً لعمليات التحديث والعلمنة التي انتهجها محمد علي (1805-1848) وخلفاؤه، سيما الخديوي إسماعيل (1863-1879)، وفي عهدهما تمتعت مصر بالاستقرار والأمن، واتسمت بالانفتاح الاقتصادي والثقافي الكوني في عهد إسماعيل، رغبة منه في محاكاة النموذج الأوروبي.

اقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"
كان الشوام المهاجرون بجانب الظرف التاريخي في مصر، يمتلكون دافع الإنجاز وثبوت حضورهم، تعويضاً عن إحساسهم بالنفي الاضطراري من بلادهم، ساعدهم تميزهم بالمهارة والخبرة المالية والإدارية وقدرتهم التنظيمية، سيما الموارنة منهم، ونظراً إلى ارتباطاتهم التجارية مع أوروبا، كانوا أكثر انفتاحاً في تعاملاتهم المالية، وأكثر تحرراً من الأحكام الدينية والاجتماعية الخاصة بالتعاملات المصرفية الحديثة، فضلاً عن تحدثهم بأكثر من لغة أجنبية ولباقتهم الدبلوماسية، وكانوا أحرص من غيرهم فيما يخص تعليم أبنائهم وبناتهم، واطلاعهم المبكر على العلوم والثقافة الأوروبية، الذي ساهمت فيه الإرساليات التبشيرية ومؤسساتها التعليمية والتربوية، في منطقة الشام، خاصة بيروت، ثم التوسع المؤسساتي في مصر.

تاريخياً كانت مصر ملاذاً لأهل بلاد الشام من المضطهدين وأهل الكفاءات والطموحين

ولدواعي مركزية الدولة المصرية الناشئة في عهد محمد علي، وسياق تنصيبه والياً على مصر، حين رغب في بدء عملية التحديث، لم يستعن بالنخبة المصرية؛ لأسباب يصعب حصرها هنا، وإنما استعان بالأجانب، ومنهم الشوام، في تأسيس جهازه الإداري، وتطوير بعض الزراعات وتجارة الحرير والمنسوجات، وحينما تفككت تلك المركزية، وتعرضت الأرض للتسليع والتخصيص، تمكنت بعض العائلات السورية من الجيل الأول المؤسس، مثل: عائلات لطف الله، والزند، وصعب، وشديد، وصيدناوي، وباسيلي، والسكاكيني، والشوربجي، وخلاط، وغيرها الكثير، الاستحواذ على ملكية آلاف الفدانات، وأصبحت من البرجوازية التجارية وطبقة كبار ملاك الأراضي ذوي النفوذ في الحياة العامة، وعنصراً رئيساً في مرحلة الانفتاح الرأسمالي من نهايات القرن التاسع عشر وحتى التأميمات في ستينيات القرن العشرين، وكانت صناعة النسيج وتجارة الخشب والقطن، ثم الفندقة والمقاولات في مرحلة متأخرة، من أهم المجالات التي برعوا فيها، إضافة إلى نبوغهم في مهن المحاماة والهندسة والطب والتعليم الأهلي.
 كان تركيب النسيج الاجتماعي في مصر، حتى النصف الأول من القرن العشرين، يتسم بالتعقيد والتشابك، نظراً للهجرات الكثيفة من كافة الأجناس والإثنيات، مما وسمها بالطابع الكوزمباليتاني، ساهمت في ذلك المحاكم المختلطة ورعاية الدول الاستعمارية، التي أمنت حرية التجارة وتراكم الثروة، وامتيازات الإقامة والعمل للأجانب، وكان كثير من الشوام ذوي رعاية وثقافة فرنسية، وبتلك الثقافة ساهموا بشكل مؤثر في علمنة المجتمع وتمدينه على نحو جذري؛ فكان لهم السبق في إنشاء الصحف، وأبرزهم: سليم النقاش، وأديب إسحق (مؤسسا صحيفة "التجارة")، وآل تقلا (مؤسسي صحيفة "الأهرام")، وجرجي زيدان (مؤسس مجلة "الهلال").

اقرأ أيضاً: حصيلة المعتقلين السوريين خلال شهر على يد هذه الجهات
كذلك ساهموا في تنشيط حركة ترجمة العلوم والأدب، أيضاً يعود لهم الفضل في تعريب وتمصير الفنون، على رأسها المسرح والأدب الروائي والغناء والموسيقى، فاشتهرت الفرق المسرحية، مثل: يوسف خياط، وأحمد أبو خليل القباني، وإسكندر فرح، وجورج أبيض، وغيرهم، وانتشرت في ربوع مصر، بوجهيها البحري والقبلي، وواجهوا وحدهم منافسة الفرق الأجنبية الشهيرة، على حسابهم الشخصي، متحملين النقد الاجتماعي والديني المناهض، وكانت هي الفرق التي تعلم فيها المصريون التمثيل والغناء، وقدمت الجيل الأول من الممثلين والمطربين المصريين؛ أبرزهم: الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش، ولا مجال للحصر.
وعلى خشبات تلك المسارح تَفتّح وعي المجتمع المصري بالعموم، وتأهل فكرياً ونفسياً لعملية قبول الثقافة البرجوازية الحديثة، وكان المكان الذي شهد الظهور العلني للنساء في المجال العام، سواء بالتمثيل أو التأليف الروائي أو الحضور للمشاهدة، أو حتى مناقشة التحرّر النسوي، كموضوع مسرحي، وذلك بفضل الممثلات والأديبات والصحفيات السوريات، اللواتي خضن معارك التحرر الأولى، في الوقت الذي كانت تعترض فيه العائلات المصرية من الطبقتين؛ الوسطى والعليا، وتأنف من انخراط أبنائها في سلك الفنّ التمثيلي، وتعدّه عملاً شائناً، وترفض تعليم وعمل بناتها وظهورهنّ الحرّ خارج فضاء المنزل.

اقرأ أيضاً: طيب تيزيني.. شاهد على "موت الإنسان" وسوريا الجريحة
  لكن، للمفارقة، وتحت وطأة ذروة انهيار الدولة العثمانية، ثم عملية التقسيم الاستعماري، وظهور المشروع الصهيوني، ظهرت خطابات الهُوية والقومية، صاحبها جدالات الدين والدولة والعلمانية، واحتدم جدل الهُوية في مصر في الفترة التي أعقبت ثورة 1919، التي عزّزت شعار "مصر للمصريين"، وبدأت فيه الدولة المصرية تتأسس دستورياً وقانونياً، وتعيد النظر في مسألة التعدد الثقافي والطابع الكوزمبيالتاني، على نحو أكثر جدية، وفي سياقه، وبالقدر نفسه، نشط الخطاب الأصولي متمسكاً بنظام الخلافة الإسلامية المنهار، ومعادياً لكل ما يمثله الاستعمار من وجود عسكري على الأرض، أو ثقافات وأفكار.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
  ساهم في تغذية هذا الخطاب، خلال الفترة الواقعة بين الثلاثينيات والخمسينيات، نشاط الإرساليات التبشيرية، والتفاوت الطبقي والأزمات الاقتصادية والحروب والإضرابات وصعود اليمين الأوروبي، والتشكيك المستمر في جدوى الحداثة والتنوير، إثر صدامات الحربين العالميتين والاضطراب الشامل، في مشهد يشبه واقعنا الراهن، وإن تغيرت توجهات وأيديولوجيات الأطراف؛ ففي ظلّ هذا الظرف التاريخي نشطت حالة العداء ضدّ الأجانب، بمن فيهم الشوام الأثرياء، الذين كان يُضاف عليهم بصفتهم أجانب، عبء كونهم أثرياء برعاية فرنسية وانجليزية؛ أي إنّهم مساهمون في حالة اللامساواة الاجتماعية، وداعمون للاستعمار والسلطة، سواء باقتصادهم أو بثقافتهم العلمانية، سيما أنّ الشوام الأثرياء كانوا مندمجين اجتماعياً داخل الطبقة الرأسمالية المصرية العليا فقط، وهي بدورها كانت محلّ انتقاد لاذع، ومنغلقين داخل مؤسساتهم ونواديهم وقصورهم مفرطة البذخ، ولم يشفع لهم تمصّر الكثير منهم، خصوصاً الجيل الثالث، الذي استقر بمصر وساهم في تمصير الاقتصاد على مستوى الإدارة ورأس المال وتراكم الفائض المحلي.

يعيد السوريون المهاجرون في مصر بعض تاريخ أسلافهم وتقدّر استثماراتهم المسجلة فيها بحوالي 800 مليون دولار

وفي مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني؛ انتعشت مسألة الجدل حول القومية والوحدة العربية أكثر لتعزيز ذلك الاستقلال، وانتعشت معها الأفكار الاشتراكية التي لم تكن واقعياً سوى رأسمالية دولة أرادت الاستحواذ على الثروة وتوزيعها، وفي هذا الإطار؛ توحدت مصر وسوريا (1958-1961)، لكن لأسباب عديدة، من بينها غضب الطبقة الرأسمالية السورية من عمليات التأميم، فشلت تلك الوحدة.
لقد سلكت الدولة المستقلة طرقاً مستقلة في ظاهرها، وانحصر طابعها الاجتماعي التعددي، لكنّها كادت أن تتطابق في انتهاج الأفكار والنظم، إلى أن فشلت في تحقيق وعود التنمية والديمقراطية والتحديث، وأصبحت مجتمعاتها حواضن للفكر المتطرف وصراعات معولمة بالوكالة، إلى أن قامت ثورات الأجيال الجديدة، التي تريد رسم مستقبل أقلّ قتامة مما وجدته ونشأت فيه، حتى اصطدمت بنظم بالية تحتمي في آلات العنف والفكر العفن وصراع ذوي الامتيازات والنفوذ، حتى تشتّتت شعوب وتشرذمت مثل الشعب السوري، الذي يجابه الموت بحراً وبراً بكل بشاعة، منذ ثمانية أعوام.

اقرأ أيضاً: النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية: هل تصمت المدافع أخيراً؟
واليوم، يعيد السوريون المهاجرون في مصر بعض تاريخ أسلافهم، وتقدّر استثماراتهم المسجلة فيها بحوالي 800 مليون دولار، لكن على قول ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراه الآن هو المهزلة"؛ لأنّ المناخ الفكري والاجتماعي نفسه يواجه فقراً مدقعاً، في ظلّ خطاب يميني هوياتي هزلي متصاعد على مستوى العالم، لا يملك سوى العداء وإلقاء الاتهامات واستقطاب الناس باستغلال إحساسهم بالخوف، وعلى وجه مفارق، بعد أن كان بعض السوريين في مصر موصومين بنشر الثقافة العلمانية منذ قرن، فهم اليوم تطاردهم شبهة الإسلاموية! إلا أنّ الظهير الشعبي الذي يعلن تعاطفه ضدّ هذا الخطاب، هو ما يُعلَّق الأمل عليه، لكن السؤال، إذا صحّ هذا الاتهام: مَن المسؤول عن هذا التحوّل؟!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية