انتخابات البوسنة والهرسك... تجذير المشكلة العرقية من جديد

انتخابات البوسنة والهرسك... تجذير المشكلة العرقية من جديد


20/10/2018

ترجمة: علي نوار


ما حقيقة الواقع عقب الانتخابات؟

استيعاب النظام السياسي في البوسنة والهرسك لا يعدّ عملية بسيطة على الإطلاق؛ فقد أدّى الجمود الذي شهده هذا النظام طيلة عقدين من الزمن، إلى أن يصبح توقّع أيّة نتيجة للانتخابات أمراً يسيراً للغاية؛ فهناك حالة من التوق للتغيير، وتبدو جزئية الاتجاه غير ذات أهمية بتاتاً؛ لأنّه لم يعد ثمة هامش للسياسة، بعد هدنة السلام الموقَّعة عام 1995، أو ما يعرف باسم "اتفاقية دايتون للسلام".

وفي نظريته بشأن البوسنة؛ أشار الحائز على نوبل للسلام، إيفو أندريتش، إلى هذه المسألة، حين ذكر أنّ "الإرث الثقيل لحياة يتحرك فيها كل شيء بشكل أبطأ من المعتاد، يتحقّق بشكل أكثر تعقيداً، وأعلى كلفة، مقارنة بأقاليم أخرى حول العالم"، وهو ما يثبت حدوثه بالفعل.

أدّى الجمود الذي شهده النظام السياسي في البوسنة والهرسك إلى أن أصبح توقّع أيّة نتيجة للانتخابات أمراً يسيراً للغاية

شهدت البوسنة والهرسك أهمّ انتخابات منذ نهاية الحرب؛ لأنّ السياسة البوسنية ابتعدت أكثر ممّا هو مألوف، ولأنّ الأجواء السياسية تشبّعت بالفعل بالمألوف، وأيضاً لأنّ التحذيرات من أوجه القصور كانت معلومة للجميع، وكذلك لأنّ منطقة البلقان كانت تعيش في حالة خاصّة من الغليان الجيوسياسي، في أعقاب استفتاء تغيير اسم مقدونيا، وإعلان رئيسَي صربيا وكوسوفو البحث عن تسوية للنزاع، مع بروز احتمالية إعادة ترسيم الحدود.

لا تعدّ المنطقة صندوق بندورة بالتأكيد، لكنّها تشهد خصلة بعينها، تتمثل في مراقبة الجيران لبعضهم، عندما يحدّقون في الشقوق، في محاولة لأيّ منهم القيام بمناورة ما، وفي هذه الحالة فإنّ هناك ثلاثة مجتمعات؛ الصرب والبوسنيون والكروات.

شهدت البوسنة والهرسك أهمّ انتخابات منذ نهاية الحرب

وخلال الحملة الانتخابية السابقة للانتخابات في جمهورية صرب البوسنة؛ أحدثت حركة "العدالة من أجل ديفيد" حالة من الحراك جديرة بالاهتمام؛ فمنذ شباط (فبراير) 2014، لم تظهر أيّة حركة شعبية تهدّد الوضع القائم في البوسنة، قبل أن يقرر والد ديفيد دراجيسفيتش، قبل أشهر، الدخول في احتجاج شعبي، أسفر بمرور الوقت عن مزيد من التظاهرات، اعتراضاً على الأوضاع في جمهورية صرب البوسنة.

ظهرت جثة دراجيسفيتش في أحد الأنهار، وقد بدت عليها آثار تشير لتعرّضه للقتل، وحاولت السلطات الإيحاء بأنّ ما حدث هو واقعة "غرق"، رغم أنّ عمق النهر هو قدمين، لكن جهات الدولة تنصّلت من الحادث، إلا أنّ التصريحات والصور التي نشرت لرئيس جمهورية صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، أثناء مواجهته مع الأب، كشفت بجلاء أنّ الأول فقد أعصابه، وأنّ الحركة كانت تضربه سياسياً في مقتل.

تخلى دوديك عن أيّ كياسة سياسية أثناء الحملة الانتخابية بالتهديد بأنّه سيحرص على طرد كلّ من يصوّت لصالح فاكوتا جوفيداريكا من وظيفته

اندفعت وسائل الإعلام الموالية للحكومة تروّج لأنّ الرجلين؛ دراجيسفيتش، ودجينان ميميتش (وهو ضحية أخرى حاولت السلطات إنكار مسؤوليتها عن وفاته، في موجة من الغضب)، ليسا سوى مدمن مخدرات ولصّ.

لكنّ السياسة البوسنية تتضمّن قواعد أخرى، لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية فحسب؛ فقد تخلّى دوديك عن أيّ كياسة سياسية، أثناء الحملة الانتخابية، ووصل فيه ذلك إلى تهديد كلّ من يمنح صوته لمنافس مرشحته في انتخابات جمهورية صرب البوسنة، زليكا سفيانوفيتش، وبأنّه سيحرص على طرد كلّ من يصوّت لصالح فاكوتا جوفيداريكا من وظيفته، وأن يتركه بلا عمل.

لم يتوقّف دوديك في الحقيقة عن التدخل في حياة العامة، الغارقة في الخطاب القومي، الذي تبثّه النخبة، المخطوفة من قبل الأحزاب السياسية والمحسوبية، بفارق وحيد الآن؛ هو أنّ الرئيس لا يتوانى عن فعل ذلك أمام مكبرات الصوت وفي قاعة مليئة بالكاميرات.

وفي أعقاب فوزه بالانتخابات؛ لم يتأخّر دوديك عن كشف نواياه بإنهاء العمل بنظام التمثيل السامي، بمساعدة من رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، لوقف الاعتماد على سراييفو، ونقل مكتبه إلى الشطر الشرقي من تلك المدينة، حيث تعيش أغلبية من الصرب.

شارك الانتخابات عدد أكثر بقليل من نصف الأشخاص الذين يحظون بحقّ الإدلاء بأصواتهم

أعلن دوديك أنّه سيعمل على اعتراف البوسنة والهرسك بالقرم، كجزء من روسيا الاتحادية، ومواصلة النضال من أجل تحقيق الاستقلال لجمهورية صرب البوسنة، ويتحدث الرجل من واقع فوزه بالانتخابات، واستمراره في رئاسة جمهورية صرب البوسنة مستقبلًا ربما، وإذا لم يتمكّن من ذلك، فبوسعه حزم حقائبه والرحيل إلى موسكو، التي لا تتقبّل بالطبع نزعاته الانفصالية، بل إرادته وأجواء التوتر السياسي التي يسببها في بلاد يصعب إيجاد التوازن فيها.

أما في الجانب البوسني، وعلى مستوى الرئاسة، فقد كانت هناك تغييرات متوقعة أيضاً، فلم يتمكن الرئيس السابق من تكرار الفوز، والحصول على ولاية ثانية، وشهد حزب "الحراك الديمقراطي" نزاعاً داخلياً لفترة، كان كفيلاً بتهديد انتصار الحزب، ولم يظهر في الصورة سوى شفيق جافيروفيتش، الذي كان يروق للزعيم القومي، بكير عزت بيجوفيتش، بوصفه رجلاً حزبياً، وعسكرياً بوسنياً سابقاً.

جذبت صفات جافيروفيتش هذه الناخبين البوسنيين، وأيضاً الموجودين في جمهورية صرب البوسنة، التي ما تزال تحبّذ الاندماج العرقي والقومي، أما نخبة (الحراك الديمقراطي) فكانوا يشكون من نقطة أخرى؛ هي أنّ البوسنيين يمثلون نصف تعداد البلاد، لكنّهم لا يحظون سوى بثلث السلطة. ومع فوز جافيروفيتش على منافسه الاشتراكي الديمقراطي، دنيس بسيروفيتش، بات من الصعب إبرام اتفاق من أيّ نوع مع دوديك.

بعد فوزه بالانتخابات لم يتأخّر دوديك عن كشف نواياه بإنهاء العمل بنظام التمثيل السامي بمساعدة دونالد ترامب

وعلى الجانب الكرواتي؛ كان الفوز من نصيب المرشح زليكو كومسيتش، الذي حصل على فترة ولاية ثالثة، ومن الواضح أنّ لديه أكثر من خيار سياسي؛ فالرجل يحظى بخلفية عسكرية، ويتمتع بدعم الناخبين؛ الكروات منهم، أو البوسنيين المؤيدين لفكرة وحدة البوسنة، الذين يرفضون النبرة الصدامية لدراجان كوفيتش، الذي يحظى بشعبية أكبر من كومسيتش بين الكروات.

ووفق القانون الساري؛ فإنّه يحقّ للناخبين من جميع المقاطعات ضمن اتحاد البوسنة والهرسك، اختيار مرشح بوسني أو كرواتي في الانتخابات الرئاسية، فيما يتمتّع البوسنيون بالأغلبية، لكن -على أيّة حال- من المؤكد أنّ كومسيتش هو الخيار الوحيد البعيد تماماً عن النعرات العرقية، ويتّجه خطابه نحو الاندماج المدني، وهو ما يثير حفيظة التيارات القومية، الصربية والكرواتية، وقد أثبت ذلك في أولى تصريحاته؛ حين هدّد بمقاضاة كرواتيا على خلفية انتهاك سيادة البوسنة خلال أعمال بناء جسر بلييشاتس، وهو ما دفع زغرب للإفصاح صراحة عن استيائها من استمراره في الرئاسة.

اقرأ أيضاً: هرم الشمس في البوسنة.. هل هو الأكبر في العالم؟

يتّضح مما سبق، إثر الانتخابات في البوسنة والهرسك، أنّ الكتلة الرافضة لا تستطيع إسقاط النخبة، ربما يعزى ذلك إلى عدم قدرة الناخبين على تجاوز ما هو أبعد من العامل العرقي؛ فقد شارك في العملية الانتخابية عدد أكثر بقليل من نصف الأشخاص الذين يحظون بحقّ الإدلاء بأصواتهم، ويبدو أن اتفاقيات دايتون ما تزال تطرح التيارات القومية نفسها التي وقّعت على إنهاء الحرب، لكن ليس على إحلال السلام.

ومن المؤكد أنّ تبادل توجيه الاتهامات بالسعي نحو مصالح عرقية، لا يقدّم ولا يؤخّر، لأنّ اتفاقية السلام تضفي ذلك على المشهد السياسي، لكنّ الأمر الذي يدعو للقلق في هذه النتائج؛ هو أنّه بعيداً عن النموذج القائم، فإنّ العقلية السياسية البوسنية ما تزال تغلّفها حالة الشقاق العرقي، وغياب الثقة بين المجتمعات المختلفة، والارتكاز دومًا إلى أنّ الحلّ يوجد على الضفة الأخرى من النهر، وهو ما يعبّر عنه أندريتش بقوله: "المشكلة الحقيقية ليست في عدم وجود جسر؛ بل في وجود ثلاثة سياسيين، واحد منهم فقط يريد عبور الجسر".


تقرير للصحفي ميجل رودريجيث أندريو، نشر بالنسخة الإسبانية من مجلة (فورين بوليسي)


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية