انفجار بيروت: ماذا تبقّى لمفهوم الدولة؟

انفجار بيروت: ماذا تبقّى لمفهوم الدولة؟


12/08/2020

تُعرّف موسوعة (ويكيبيديا) الدولة بأنّها مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدّد، ويخضعون لنظام سياسي معيّن، متفق عليه فيما بينهم، يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية التي تهدف إلى تقدّمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها. وأهمّ ما في موضوع البحث في الدولة، ونحن ننظر إلى "مأساة لبنان"، كما سمّاها رئيس وزراء لبنان حسان دياب، في كلمته للشعب اللبناني التي أعلن فيها استقالة حكومته مساء يوم الإثنين 10  آب (أغسطس) الجاري، هي التعريفات السياسية للدولة.

 

ماذا تبقّى لمفهوم الدولة العربية المعاصرة إذا عجزت عن ممارسة السيادة الكاملة؟

فالدولة هي، قبل كلّ شيء، تجمّع سياسي يؤسّس كياناً ذا اختصاص سيادي، في نطاق إقليمي محدّد، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، والعناصر الأساسية لأيّ دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، والسيادة والاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لا سيّما الخارجية. وتتميز الدولة بخمس خصائص أساسية تميزها عن المؤسسات الأخرى:

1- ممارسة السيادة: فالدولة هي صاحبة القوة العليا غير المقيّدة في المجتمع، وهي بهذا تعلو فوق أيّ تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة. وقد دفع ذلك توماس هوبز إلى وصف الدولة بالتنين البحري أو الوحش الضخم.

- الطابع العام لمؤسسات الدولة: وذلك على خلاف المؤسسات الخاصة للمجتمع المدني. فأجهزة الدولة مسؤولة عن صياغة القرارات العامة الجمعية وتنفيذها في المجتمع. ولذلك، تحصل هذه الأجهزة على تمويلها من المواطنين.

3- التعبير عن الشرعية: فعادة ما ينظر إلى قرارات الدولة بشكل عام بوصفها ملزمة للمواطنين، حيث يفترض أن تعبّر هذه القرارات عن المصالح الأكثر أهمية للمجتمع.

4- الدولة أداة للهيمنة: حيث تملك الدولة قوّة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين. ويؤكّد عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) أنّ الدولة تحتكر وسائل "العنف الشرعي" في المجتمع.

5- الطابع "الإقليمي" للدولة: فالدولة تجمّع إقليمي مرتبط بإقليم جغرافي ذي حدود معيّنة، تمارس عليه الدولة اختصاصاتها، كما أنّ هذا التجمّع الإقليمي يعامل كوحدة مستقلة في السياسة الدولية.

 

جاءت "مأساة لبنان" مثالاً صارخاً في الضمير العربي لتطرح في العمق مفهوم الدولة في الوطن العربي وليس لجلد الذات وتبادل الاتهامات.

طبعاً؛ ليس المقصود من العرض أعلاه ممارسة دروس في أبجديات العلوم السياسية، أو إعطاء محاضرة لطلبة السنة الأولى في تخصّص العلوم السياسية في الوطن العربي، بل محاولة للأخذ بيد الشباب العربي والطلب منه أن يضع هذه  المميزات الخمس للدولة أمامه، ويراجعها وينظر فيها، هل تنطبق على الدول العربية التي نعيش فيها؟

في جينولوجيا الدولة، في المنظومة المعرفية العربية، نقف على المفهوم الشاحب والمرعب للدولة، الذي يبدو أنه يسري في ثنايا لاوعي الإنسان العربي الذي لم يرَ في الدولة إلا الغلبة والظفر.

اقرأ أيضاً: قنابل موقوتة... هل تشهد إيران كارثة مماثلة لما حدث في بيروت؟

فقد ورد في قاموس لسان العرب أنّ "الدَّوْلة والدُّولة: العُقْبة في المال والحَرْب"، بمعنى الغلبة والظفر بهما، والدولة والدول بمعنى "السُّنن التي تُغيَّر وتُبدَّل" و"الدَّوْلة الفعل والانتقال من حال إِلى حال"، و"دُولة بينهم يَتَداوَلونه مَرَّة لهذا ومرّة لهذا"، وفي القاموس المحيط "الدَّوْلَة انْقِلابُ الزمان"؛ بمعنى "تغيره، مرَّة لهؤلاء ومرّة لهؤلاء". إذن؛ فمفهوم الدولة لا يخرج عن معنى الغلبة والظفر، وربّما التداول، لكن ليس هناك أيّ معنى لوظائف ومميزات الدولة.

على الجهة المقابلة، تشكلت الدولة الأوروبية الحديثة بعد معاهدة وستفاليا 1648، وتطوّرت بشكلٍ مستمر ومخاض صعب، حتى الأشكال الحديثة للدولة في أوروبا وأمريكا وبعض أجزاء آسيا، بناءً على فهم عميق لمعنى حرية التداول السلمي للسلطة، ومميزات محدّدة لشكل الدولة لم تخرج عليها حتى اليوم.  

اقرأ أيضاً: كيف قضت بيروت ليلتها الأولى بعد استقالة الحكومة؟

أمّا في الوطن العربي؛ فإنّ الدولة، باختصار شديد، كانت قد خطّتها أيادي الاستعماريين، ورسمت خطوطها على "الرمل"، وعبثت بها الدول الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى، وتولّت توليدها -قبالتها- أيدٍ غربية تسبّبت لها "بخلعِ ولادةٍ" ليس له علاج، ولذلك نراها تتمايل في خطاها كمشية البطة.  

إذا غابت الدولة عن خدمة الشعب في الكوارث والأزمات، مثل تفجيرات بيروت، وتولتها الجمعيات والمنظمات الدولية والأهلية، وإذا لم يثق المجتمع الدولي بالحكومات العربية في توزيع المساعدات والمنح المالية وإعادة بناء البنى التحتية بسبب اتهامها بسوء الائتمان والفساد، فالسؤال الذي يُطرح هو: ماذا تبقّى لحكومات هذه الدول؟

اقرأ أيضاً: بعد كارثة مرفأ بيروت... مساعدات قطر لمن ذهبت؟

ماذا تبقّى لمفهوم الدولة العربية المعاصرة؛ إذا عجزت الدولة العربية بشكلٍ عام عن ممارسة السيادة باعتبارها صاحبة القوة القاهرة غير المقيدة في المجتمع، بحيث تعلو فوق أيّ تنظيمات أو جماعات أو أحزاب داخل الدولة، مهما كان شكلها أو مبرّر وجودها؟ وإذا فقدت الطابع الإقليمي باعتبارها تجمّعاً إقليمياً مرتبطاً بإقليم جغرافي ذي حدود معيّنة تمارس عليه الدولة اختصاصاتها، ويعامل كوحدة مستقلة في السياسة الدولية. وعجزت عن أن تكون أداة للهيمنة تملك قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين. ثمّ فقدت التعبير عن الشرعية لقراراتها بوصفها ملزمة للمواطنين، حيث يفترض أن تعبّر هذه القرارات عن المصالح الأكثر أهمية للمجتمع، وأفلت من يدها الطابع العام لمؤسسات الدولة، ذلك أنّه، على خلاف المؤسسات الخاصة للمجتمع المدني، فأجهزة الدولة مسؤولة عن صياغة القرارات العامّة الجمعية وتنفيذها في المجتمع؟

اقرأ أيضاً: انفجار مرفأ بيروت يزلزل صورة حزب الله ومستقبل سلاحه

وُلدت الدولة العربية مشوّهة، ومصابة بخلع الولادة، كما أسلفت، ومنذ نهاية الاستعمار وهي تُدبّر عيشها ضمن مساحة هذه الإصابة المرضّية، ولم تخرج عنها حتى اليوم، ويمكن للمراقب العام أن يلاحظها كلّ يوم في كلّ معاني الحياة اليومية وعلاقة هذه الدول مع غيرها من الدول.

لقد جاءت "مأساة لبنان" -كما وصفها رئيس الوزراء المستقيل- مثالاً صارخاً في الضمير العربي، لتطرح في العمق أمام الجميع، وعلى كافة المستويات، مفهوم الدولة في الوطن العربي، وليس لجلد الذات وتبادل الاتهامات.

فهل هناك أمل في ولادة مولود قوي وأكثر صحّة بعد أجيال؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية