ببجي ولغة العنف والموت .. هل هي مجرد لعبة؟

ببجي ولغة العنف والموت .. هل هي مجرد لعبة؟


21/01/2019

ربط الباحث السوري، جاد الكريم الجباعي، بين اللعب والتفكير عند الأطفال، منطلقاً من مقولة فرويد: "حياة الفرد الإنساني تلخّص تاريخ الحياة، بحسب منجزات الجينولوجيا الأحدث؛ وحياة الطفل تلخّص تاريخ الجنس البشري"؛ حيث قال: "الطفل يلعب حين يفكّر، ويفكّر حين يلعب، تفكيره لعب، ولعبه تفكير وإبداع يستعصي فهمه على الكبار، التفكير بوصفه لعباً هو الصورة الأولية لحرية الفرد، أو صورة الحرية الأولية البكر، التي تؤسّس الحرية العقلية واختيار الخير أو الشرّ، اللذين لا وجود لهما إلا في الأساس الأخلاقي الذي تقيمه الذات الفردية والجمعية لذاتها، لا في أيّ موضوع خارجيّ، ولا في أيّة نزعة طبيعية".

اقرأ أيضاً: كيف تغذي ألعاب الفيديو العنف ضد المرأة؟

هل ينطبق اللعب الذي يتحدث عنه الجباعي على الألعاب الإلكترونية التي لا تفرّق بين الخير والشرّ، أم أنّها تدعو إلى الشرّ فقط عن طريق العنف وحمل السلاح في وجه كلّ من يقف أمام لاعبيها؟ أم أنّ الواقع المعيش في المجتمعات العربية يدعو الشباب والشابات قبل الأطفال إلى القيام بأعمال العنف الافتراضية كردّ فعل على هذا الواقع؟

ساحة قتال افتراضية

شاهدتُ مجبرةً لعبة "ببجي"؛ لأنّ من كان يلعبها مقربٌ مني، ودفعتني هذه المشاهدة لكتابة هذه المقالة؛ لعبة "الببجي" تعني ساحة القتال، أو ساحة المعركة، وهي في الواقع ليست فقط ساحة قتال، بقدر ما هي غرفة عمليات حربية متكاملة، مجهزة بأحدث الأسلحة الافتراضية والأفكار العنفية، التي تعكس أسلحة الدمار الشامل على أرض الواقع، وتؤدي في نهاية مطافها إلى دمار شامل للحالة النفسية التي يعيشها النشء المنغمس في الفراغ؛ إذ إنّها تشكّل لديهم وجوداً مفقوداً في الحياة العملية، كونها لعبة صراع من أجل البقاء، ولا أخفيكم القول: إنّ الحماس دبّ في داخلي إلى أن شجعت اللاعب على القتل عندما داهمه عدوّه، هذا الحماس غير الإراديّ هو الذي يشجع الشباب والشابات؛ فاللعبة لا تقتصر على الذكور فقطـ، كما أنّها تحفزهم للمكوث ساعات طويلة أمام شاشة الهاتف المحمول، وقد يأخذهم إلى السهر حتى الصباح دون أن يشعروا بالملل أو التعب.

المسألة تتعدى ألعاب التسلية إلى التعويض اللاشعوري عن الهزيمة الواقعية بالانتصار الوهمي لدى الشباب الذي يشعر في الاغتراب والاستيلاب

يتمّ اللعب في "ببجي" إما بشكل فردي ضدّ أفراد آخرين، أو بشكل فريق متكامل من شخصين إلى أربعة أشخاص كحدٍ أقصى، أما عدد اللاعبين فقد يصل إلى مئة لاعب من جميع أنحاء العالم. صممت اللعبة مرفقة باتصال صوتي لتسهيل عملية الحرب، وتعتمد اللعبة على خريطة معلومة لدى المقاتلين (اللاعبين)، وأخرى مجهولة لتزيد من فضولهم للبحث عن أسلحة جديدة وأعداء جدد، والجدير بالذكر؛ أنّ الأعداء الافتراضيين قد يكونوا أصدقاء أو أخوة في الحياة الواقعية، وعليهم القضاء على بعضهم داخل حربهم التي تجرهم بعدها إلى مشاحنات واقعية إثر التباهي بانتصار المنتصر الوهمي أو الافتراضي.
الرغبة بالانتصار ونسيان الواقع
إنّ الهزائم التي آلت بالمجتمعات المتخلفة إلى السقوط في هاوية الخضوع للعنف والاستبداد من قِبل حكوماتها الديكتاتورية، جعلتها لا تفرق بين ما يصبّ في مصالحها الإنسانية، وما هو ضدّ تلك المصالح، أمّا لغة اللعبة؛ فهي لغة القتل والدم والغنائم والسطو على منازل الأعداء لسرقة كلّ ما تحتويه، لغة العدوّ القادم من منطقة مجهولة، ببساطة هي لغة الموت فقط؛ والقيم المجردة من الأخلاق العامة التي تنعدم فيها القيم الإنسانية.

لغة اللعبة هي لغة القتل والدم والغنائم والسطو على منازل الأعداء لسرقة كلّ ما تحتويه، ببساطة هي لغة الموت

المسألة هنا تتعدى ألعاب التسلية أو الترفيه؛ إلى التعويض اللاشعوري عن الهزيمة الواقعية في الانتصار الوهمي لدى الشباب الذي يشعر في الاغتراب والاستيلاب على جميع الأصعدة في الحياة العامة على أرض الواقع، مخترع اللعبة "بريندان غرين"؛ وهو نيوزيلانديّ الجنسية، الموسيقيّ المعجب بالجيش الأمريكي وأفلام هوليود الحربية؛ لم يكن يحسب حساباً إلى ما ينتج عن تصميمه هذا من خراب نفسي لدى اللاعبين، إنما كان يتحدى منافسيه من مخترعي الألعاب للفوز بلقب المخترع الأول؛ أي إنّه كان بحالة من التجرّد أو الحياد بين العلم والعمل، لكن عندما تصبح هذه اللعبة بين الأيدي الأخرى تغدو موضوعاً لذاوت اللاعبين، ومن الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن يكون هناك حياد بين الذات والموضوع، الذات عند اللاعب يحسبها حرة؛ لكن في الحقيقة اغتصبتها جاذبية اللعبة وحبّ الانتصار.

اقرأ أيضاً: الألعاب الإلكترونية مصيدة أطفالنا المهمَلين

لاحظ العالم الألماني، أرنست فيشر، أنّ "اللعب هو الأساس الأولي للفنّ، ولنموّ الفردية وتكوين الشخصية والصورة الأولية من صور الحرية، التي ترقى، بالمعرفة والعمل، إلى حرية عقلية". تنطبق ملاحظة فيشر على ألعاب الأطفال المحكومة بالحرية، إن لم نقل المنبثقة منها؛ وإن لم تكن تخلو من العنف لكنّه عنف بريء غير قابل للتأويل باتجاه مصالح شخصية، من خلال تلك الألعاب تخطو الفردية خطواتها الأولى، وتظهر معالمها في السلوك المختلف بين الأفراد، لكن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ تقيّد تلك الفردية، بحسب نظامها ونسقها الجماعي، وبحسب قوانينها السلطوية؛ لذلك تصبح لعبة الكبار لعبة مصالح شخصية، لعبة سياسة ولعبة اقتصاد تغوّلت شركاته الرأسمالية على العالم، وإلّا ما الذي يدعو إحدى الدول العربية للإعلان عن جائزة تتجاوز مليون دولار أمريكيّ للفائز الأول بلعبة "الببجي"؟ وأي قيمة أخلاقية تحمل تلك اللعبة؟

اقرأ أيضاً: صدمة.. "الصحة العالمية" تعلن تصنيف إدمان ألعاب الفيديو!

السلطة والحرية قطبان متنافران ومتخارجان يحولان دون نشوء حياة مدنية وسياسية يتمتع بها الأفراد والجماعات في المجتمعات المحكومة بالاستبداد، هذا التنافر والتخارج هما امتداد للحرب بوسائل أخرى، وليس تعلق الشباب والشابات في لعبةٍ إلكترونية مثل لعبة "الببجي" إلّا حرباً مبطنة على الذات التي هدرتها السلطات المستبدة؛ ابتداءً من السلطة الاجتماعية وانتهاءً بالسلطة السياسية.
يبقى السؤال قائماً: مَن المسؤول عن سدّ الفراغ الذي يعيشه شباب وشابات العصر في مجتمعاتنا، وجعلهم يتجهون إلى وجودٍ افتراضيّ مليء بالعنف والدمار؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية