بعد أن تناولت العشاء مع قائد الخلية: ذهب لأمريكا وعاد يصفهم بالبهائم

بعد أن تناولت العشاء مع قائد الخلية: ذهب لأمريكا وعاد يصفهم بالبهائم


05/03/2018

خمس سنوات مضت ولا تزال ملامح وجهه تلاصق خيالي؛ كأنه شبح لا يكاد طيفه يبرح إلا ويمرق أمامي مجدداً. نظرات عينيه الهائمة بين رفقائه في التنظيم وحراسه المقيّدين يديه في السلاسل، كان لي نصيب منها. إنها "حادة ومزعجة". لم يكن لي حاجة في السؤال حتى أعرف أنّه القائد.

كنت نجحت في التسلل من تحت عيون رجالات القوات الخاصة التي تحدجني من خلف النظارات السوداء، ومن بين فوهات الأسلحة الأتوماتيكية والسيارات المدرعة، حتى أصبحت في قلب البناية التي لم تكن تحمل لافتة. كانت نيابة أمن الدولة العليا، القابعة في منطقة القاهرة الجديدة.

لم تكن الأجهزة الأمنية وحدها من رأى في اكتشاف تلك الخلية صيداً ثميناً؛ بل كنت أنا أيضاً. فقد زجت بي غرائز الفضول لألتقي بطارق أبو العزم، ذلك الضابط الذي كان قد شكل تنظيماً في العام 2003 أطلق عليه (جند الله) وها هو مرة أخرى يشكل تنظيماً جديداً بعد ثورة الــ 25 من يناير، وفي ظل حكم رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. كان ذلك مدهشاً؛ فقد كانت الحالة المصرية وقتها تفتقد المبرر القوي لذلك.

حدثني طارق: تيقنت بأنّ الأمريكان ليسوا بأفضل منا، بل إنهم "أغبياء وبهائم" وأنهم أقل خبرة وذكاء

جمعتني بهم غرفة باردة وساكنة. كأنّ هواء المبردات جمّد الجالسين على مقاعد النيابة الخيرزانية، فنكّسوا جباههم الحزينة، وتخشبت أطرافهم وتحولوا إلى عرائس من الشمع. كان من حسن حظي أني ألتقيت في الداخل بمجدي سالم، الذي تعرفت عليه من قبل، بوصفه محامياً للتنظيمات الإسلامية، فأزال بعض من الحاجز بيني وبين هؤلاء المتهمين.

ترامى إلى مسامعي قول أحدهم بــ "أنه جائع"، فطلبت من الحارس جلب عدد من وجبات العشاء، ودعوتهم جميعاً للطعام، فاستجابوا. لم يكن يخطر ببالي في صباح ذاك اليوم الحار أن يفضي بي المآل في آخره إلى الجلوس وجهاً لوجه مع عناصر التنظيم.

قلت لــ" أبو العزم" وأنا أحاوره: "تكاد تلتهم العسكر بنظراتك المحتقرة، بينما هي ذاتها تنم عن محب ودود عندما توجهها إلى إخوانك"، فقال: "إنه الولاء والبراء، أوالي من والى الله وأحبه فيه، وهم إخواني هؤلاء، وأبرأ ممن عادى الله وأكرهه فيه وهؤلاء جند الطاغوت". كانت وجوه الحراس تشي بالبؤس وشظف الحياة، لم يكونوا يرجون من الله لحظتها سوى انتهاء المهمة، والذهاب إلى بيوتهم ولقاء ذويهم.

في العام 1970 رزق التاجر المحلاوي، ميسور الحال، طه عبدالسلام أبو العزم، بولد، فاجتاحه شعور في أن يصبح مقاتلاً صلباً يأخذ بثأر الوطن بعد الهزيمة التي مُنيت بها البلاد في العام 1967 وما زالت مرارتها تسري في حلقه.

تخرّج طارق في الكلية الحربية، فأثبت كفاءة شهد له بها قادته، فقرروا إرساله في بعثة للولايات المتحدة الأمريكية، وهناك بدأ في لماذا يغضبِون الله؟

حدثني قائلاً: تيقنت بأن الأمريكان ليسوا بأفضل منا، بل إنهم "أغبياء وبهائم"، إنهم أقل خبرة وذكاء، ولا يجيدون سوى فن الإدارة الذي افتقدناه نحن، ولا أدري لماذا دخلت على شبكة الإنترنت، وقمت بقراءة كتب سيد قطب فألهمتني كتاباته.

بدأ البرود في التلاشي باستحضار سيرة " قطب" وروحه، وكأنه حل أمامنا واقفاً فوق خشبة الإعدام، حتى إذا دوّى صريرها، وتهاوى الجسد النحيل في بئر الموت، وتأرجح على حبل المشنقة، دبّت في العرائس الروح ونهضت لتحمل الكلاشينكوف. استرسل وهو يقول: "الأمريكان يتمتعون ويأكلون الأنعام، بل هم أضل سبيلاً، كم قتلوا منا، قاتلهم الله"؟

عاد شبح "سيد قطب" ليحلق فوقنا من جديد وكأنه يهبط ليجلس على مقعد "أبو العزم". وددت لو أسأله: "هل رأيت الشيطان يطلّ بقرنيه على  تلك البلاد، أم هي نفسك التي نزغتك نزغاً"؟

إن التوحيد ليس كلمة سهلة كي يقولها مسلم، وهو ينام على أريكة، بل هي كلمة استشهد من أجلها صحابة رسول الله حتى تصل إلينا، لكنّ الناس استمرأت الذل والقعود عن الجهاد في سبيل الله حتى باتت كالجندي التتري الذي كان يوقف المسلم حتى يذهب ليأتي بسلاحه ويذبحه.  إنها كلمات ملهمه  "قطب" كان يرددها طيلة الوقت.

انسكبت محبرة "سيد قطب" لتغرق أوراق طارق، واتسعت شيئاً فشيئاً لتصبح بركة من الدماء الفوارة

انسكبت محبرة "سيد" لتغرق أوراقه، وخطت مسارات من اللون الأحمر الداكن لتصنع بقعة متجلطة، وتتسع شيئاً فشيئاً لتصبح بركة من الدماء الفوارة. سحبتُ نفساً باردًا من غرفة وقلتُ له: "ما الذي يجعل من ضابط كفؤ مثلك قائداً لمجموعة من الجهاديين"؟

إنه غزو أمريكا للعراق. لقد ذهب لتأسيس جماعة ذهبت للتخطيط لضرب السفن الأمريكية المارة في قناة السويس أثناء تلك الحرب، لكنه قبض عليه قبل أن يفعل. لقد آمن بأن أمريكا "عدوة الله " وأن حسني مبارك "طاغوت" ففعل المحظور، وحاول تجنيد ضباط في الجيش، فرصدته أعين المخابرات الحربية، وحوكم في قضية "جند الله" .

أشار "طارق" بسبابته في اتجاه الخارج وعيناه في عيني وقال: إن هناك العشرات من الذين يموتون على الأسفلت كل يوم، ماذا يضير لو ماتوا من أجل الجهاد في سبيل الله، إنهم يموتون بسبب وبدونه، فلماذا يرضون بالذل ولا يموتون دفاعاً عن دينهم.

أكد أنه رفض مبادرات الجهاد، وأمضى في "تأديب" سجن الوادي الجديد، المعروف بقسوته، شهوراً عديدة معزولاً عن الجميع، وقضى شهوراً أخرى في تأديب سجن ليمان أبي زعبل،  وأضرب عن الطعام ما يزيد عن 26 يوماً، وتنقل ما بين غالبية السجون.

بعد 3 ساعات برفقته، ربّت على كتفه، وهو يرحل، وخاطري يسأل: "أتراك قاتلي يوماً، أم تراك تعلق على عود مشنقة قبل أن تفعل؟". كدتُ أصرخ حتى يزلزل الصدى أركان البناية المرعبة: "ألم تكفِ أنهار دمائنا مذ ذبح عثمان، ورفعوا المصحف على ذؤابتي السيفين، وهتفوا صائحين " إن الحكم إلا لله"؟

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية