تاريخ البرلمان البريطاني يكشف عن نسبية الأخلاق

تاريخ البرلمان البريطاني يكشف عن نسبية الأخلاق


08/02/2018

في عالم عربي يموج بالاضطرابات والحروب، وتيارات من الأفكار المختلفة والمتباينة، وأحداث فاصلة تشقّ المجتمعات، وثورات وانتفاضات منذ 7 أعوام، يطلّ سؤال الأخلاق برأسه، ولا يجد إجابات ومقاربات شافية، حتى الآن، في نظر كثيرين، ويرى بعضهم أيضاً أنّ هذا السؤال قد أُهمل في غمرة الأحداث لصالح أسئلة السياسة المباشرة، التي انشغل المفكّرون بها في السنوات الأخيرة، في وقت يسود فيه احتكار مفهوم واحد متجمّد للأخلاق، عند كلّ طرف من الأطراف المتصارعة، باعتباره مطلقاً، وذا شكل واحد وطريقة واحدة، ويتمتّع باستحقاق لا يتمتع به غيره. ومن ثمّ، وباسم الأخلاق الواحدة المطلقة، قتِل وشرِّد كثير من البشر في هذه المنطقة العربية، وسط حمّى تبشيرية بنسخة واحدة من الأخلاق، عند كلّ طرف، باعتبارها النسخة الوحيدة الصحيحة في مواجهة نسخ الأطراف الأخرى المشوّهة.

السؤال الأخلاقي هو سؤال متجدد يعبّر عن تطور التاريخ ويصعب تصوّر نسخة أخلاقية غير متجددة للمجتمع 

أمام هذا "الاحتكار لشكل موحّد من الأخلاق" آراء تنويرية لمفكّرين أو فلاسفة، عرب أو غربيين، حاولوا مقاربة سؤال الأخلاق، وما أكثرهم، لا يكفي استعراض نص تراثي يتناول زاوية مختلفة، تجعلنا نعيد النّظر في مسألة الأخلاق بعيون جديدة، لكن، في رحلةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، سنذهب إلى مقرّ البرلمان البريطانيّ، قبل قرابة قرنين من الزمان.

في الدولة التي تعدّ، في نظر كثيرين، مهد الديمقراطية الحديثة؛ حيث واحد من أقدم البرلمانات، الذي اتخذ شكله الأوّل عام 1225، بعد صدور "الميثاق الأعظم للحريات في إنجلترا، والحريات في الغابة (الماجنا كارتا)"، كما عرف بعد ذلك، يجلس الأعضاء في الرقعة الأكثر ديمقراطية في العالم، في القرن التاسع عشر، في نظر كثيرين "البرلمان البريطاني"، تحديداً عام 1819،  ويقف بعضهم ليعترض ويشجب بقوّة.

أقدم البرلمانات اتخذ شكله الأوّل عام 1225 بعد صدور "الميثاق الأعظم للحريات في إنجلترا، والحريات في الغابة (الماجنا كارتا)"

في هذا الوقت، كان مطروحاً على جدول الأعمال في البرلمان البريطاني، مشروع قانون، كان هؤلاء النّواب الواقفون يعترضون عليه بقوة، إنّه مشروع قانون جديد لفرض ضوابط محدّدة على عمالة الأطفال، وكان الاسم المطروح لمشروع القانون هو "قانون تنظيم محالج القطن".

التنظيم الجديد الذي طُرح في هذا المشروع القانوني، كان سيمنع ويحظر توظيف الأطفال، الذين لا تتجاوز أعمارهم تسعة أعوام، في حين لم يتعرض مشروع القانون للأطفال الأكبر سنّاً من ذلك، بل سمح تماماً لأرباب العمل استغلال الأطفال من عمر 10 إلى 16 عاماً، لكنّه على الجانب الآخر، رأى أن يرفق بهم، بأن يجعل الحدّ الأقصى لعدد ساعات عمل هؤلاء الأطفال، هو 12 ساعة يومياً، وفي الجلسات التي خصصت لمناقشة مشروع القانون، كان المدافعون عنه يرون أنّه أخلاقيّ؛ لأنّه يقدّر ضعف الأطفال، وحقّهم في الاستمتاع بطفولتهم، فلا يعملون أكثر من 12 ساعة يومياً، في حين عارض أعضاء ولوردات القانون بشدّة، بدافعٍ أخلاقي من وجهة نظرهم؛ هو أنّ مشروع القانون هذا سيقمع الحريّات! نعم سيقمع حرية الأطفال في أن يختاروا العمل في طفولتهم لأكثر من 12 ساعة، وهم يحتاجونه وتحتاجه عائلاتهم لجني المال، ورأوا فيه قمعاً لحرية أصحاب العمل أيضاً في عرض ظروف عمل معينة على الأطفال، وفق قانون العرض والطلب، الذي من المفترض أن يحكم الأسواق والمجتمعات الحرّة، من وجهة نظر هؤلاء المعترضين، وعدّ اللوردات المعترضون في البرلمان، أنّ مشروع القانون يهدّد حرية الأسواق والرأسمالية الوليدة، ويعيد المجتمع إلى براثن التخلّف، بالتخلي عن الحرية الاقتصادية، وهو ما رأوه خياراً لا أخلاقياً.

قانون تنظيم محالج القطن كان سيمنع ويحظر توظيف الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم تسعة أعوام

جدير بالذّكر هنا؛ أنّ مشروع القانون كان يضع هذه القواعد لتسري فقط على محالج الأقطان، التي كان مثبتاً حينها أنّها ذات أضرار صحية خطيرة للغاية على من يعملون بها، أمّا الأطفال الذين كانوا يعملون في بقية محال العمل المختلفة في بريطانيا، فلم يكن مطروحاً، بأيّ حال حينها، أن يُحظر عملهم لأكثر من 12 ساعة، وكان مقبولاً للغاية أن يعمل طفل في السابعة من عمره، دون أن يثير ذلك أيّة حفيظة أخلاقية، عند أكثر الأخلاقيين البريطانيين تحفظّاً، أو ذوي الحساسية المفرطة.

بالطبع اليوم، وبعد مرور قرنين من الزمن، لم يعد أحد ليتخيل أن يكون مقبولاً أخلاقياً، فرض صاحب عمل على عامل، بالغٍ وعاقلٍ، العمل لعدد ساعات يزيد عن 8 ساعات يومياً، فضلاً عن أن يكون العامل طفلاً لم يتم العاشرة من عمره.

لا يمكن على الأرجح ووفق ما يؤكده التاريخ لأيّة نسخة من التصورات الأخلاقية أنْ تظنّ نفسها مطلقة

إنّ هذا المثال، الذي ربما يستشهد به المفكّرون الاقتصاديون للتّدليل على أفكار ذات صلة بالأبعاد الاقتصادية فقط، مثل تفنيد فكرة حرية الأسواق كفكرة مطلقة، حيث إنّ الأسواق التي تدّعي الحرية هي نفسها التي تقبل ضوابط من الدولة القومية عليها، تتطوّر بمرور الزمن، وتقيّد حركة العرض والطلب المفتوحة، هو أيضاً مثال مهمّ للغاية في عالمنا المعاصر، للتذكير بأنّه لا يمكن على الأرجح، ووفق ما يؤكده التاريخ، لأيّة نسخة من التصورات الأخلاقية، أن تظنّ نفسها مطلقة، أو أن يظنّ أصحابها أنّها نسخة أخلاق نهاية التاريخ، فكما تبين الواقعة، حتى قرنين فقط  من الزمان، وفي أكثر بقعة ديمقراطية في العالم في ذاك الزمان، كان مجموعة من اللوردات الديمقراطيين يجادلون حول لا أخلاقية منع عمالة الأطفال في محالج الأقطان الخطرة، لأكثر من 12 ساعة، ويؤكّدون أنّ ذلك المشروع، المعيب أخلاقياً، يقوّض القيمة المؤسسة للمجتمع، وهي الحرية.

هذا المثال يوضح، إلى حدّ كبير، كيف أنّ السؤال الأخلاقي هو دوماً سؤال متجدد، يعبّر عن تطور التاريخ، يوماً بعد يوم، وربّما يصعب تصوّر نسخة أخلاقية للمجتمع، لا تفترض في نفسها إمكانية التجديد والتجاوب المستمر مع حركة المتغيرات، فضلاً عن أن تتصوّر عن نفسها، كونها الوحيدة القادرة على حلّ مشكلات المجتمع، بفرضها عليه قهراً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية