تاريخ التعذيب: هل التوحّش طبيعة بشرية؟

تاريخ التعذيب: هل التوحش طبيعة بشرية؟

تاريخ التعذيب: هل التوحّش طبيعة بشرية؟


18/11/2023

هل يتحرك الإنسان حقاً نحو مستوى حضاري أسمى في طريق حفظ الكرامة الإنسانية؟ أم أننا اليوم متوحشون مثلما كنا في فجر التاريخ ولكن بأدوات مختلفة؟
تشهد وقائع التاريخ أنّه لا يمكن الهروب من الحقيقة الصادمة أنّ الأمور لم تختلف كثيراً على صعيد ممارسات التعذيب، التي كانت تتم ظلماً وعدواناً على سبيل المتعة أو الانتقام أو حتى باسم الدين والعدالة!

تاريخٌ من الألم
القدماء، من آشوريين مثلاً، أو إغريق، أو قرطاجيين، كانوا يحرقون أو يرجمون من يرونهم مجرمين. يقول "هيروود" في كتابه "تاريخ التعذيب"، أنّ المؤرخ جوزيفوس فلافيوس يكشف أنّ التعذيب منذ زمن الإغريق، بدأ يأخذ أبعاداً أكثر شدة ورعباً، وقد كان فلاسفة كأرسطو، يعتبرونه "أسلوباً يحمل دلالة على مصداقيةٍ مطلقة؛ لأنه ينتزع الحقائق بالإكراه والعنف".
لكن هذه الحقيقة المرتجاة، ليست واضحة، ففلافيوس ولوشيان ومؤرخون غيرهم، يذكرون أن التعذيب لم يكن سوى وسيلة "حكام المدن الطغاة"، لتفريغ حقدهم على معارضيهم أو أعدائهم، ولذلك استخدموا الكرة المعدنية مثلاً، وهي أداةٌ يحبس فيها الشخص ثم توقد تحتها النار حتى "يذوب لحم الشخص من شدة حرارة المعدن".

الدولة الرومانية رغم تفوقها المعرفي والحضاري كانت تستخدم التعذيب من أجل التسلية

وفي مقابل الإغريق؛ فالفرس أيضاً، كانوا يضعون الشخص المراد تعذيبه بين قاربين طافيين على الماء، ثم "يربطونه بينهما على الحبال، ويدهنونه بالسمن والعسل لأيام، حتى تتمكّن منه الحشرات والدبابير والديدان، في ميتة رهيبة وطويلة".
أساليب التعذيب الرهيبة، شملت في ذلك الماضي؛ العبيد، الأسرى، المجرمين، والجنود المتمردين، ورغم ذلك، يصرّ المؤرخون ذاتهم أنّ التعذيب أوجد في الأساس من "أجل انتزاع الشهادة من الشهود".

لكن روما التي كانت في ذلك الزمن، المدينة الأكثر ثراء وعظمة ومعرفة في العالم ربما، بدأت تستخدم التعذيب من أجل التسلية، وبحسب "هيروود"، بدأ ذلك على يد الحاكم الخامس لروما (تاركونيوس)، الذي ركّز على إنشاء ساحاتٍ من أجل العروض الرياضية والترفيهية، لكنها سرعان ما تلطخت بالدماء، بعد التفنن في وضع الأسلحة بأيدي عبيدٍ أو أسرى، كان من السهل التخلص منهم واستبدالهم بآخرين، ليقوم كل واحدٍ منهم بمصارعة الآخر، وتعذيبه قدر الممكن، حتى يحافظ على حياته ضد خصمه، وذلك في مشاهد مروعة، يسجلها التاريخ الروماني المكتوب، وكأنّ المدنية والتحضر، لم يتعارضا مع التعذيب وسفك الدماء من أجل الفرجة.

الرومان: قتل وتعذيب من أجل المتعة

هل شفع الدين للمتدينين؟
بعد انتشار المسيحية خلال القرن الثاني للميلاد، واعتناق جماعاتٍ متفرقة من البشر لها، طارد الرومان الوثنيون هؤلاء، وجعلوا منهم طعاماً للحيوانات المفترسة حيناً، وأحرقوهم أحياناً أخرى، أو استمتعوا بتقطيع أعضائهم، أو صلبهم ودق الأوتاد في أطرافهم، ليموتوا تحت القيظ أو تحت المطر على حدٍ سواء. أما السبب الرئيسي لتعذيبهم وفق كتاب "الكنيسة والعلم" لموريس مينوا، فهو تخليهم عن "عبادة الإمبراطور" وبسبب إيمانهم أنهم أصبحوا يملكون كمسيحيين الحقيقة المطلقة، ولا يتجهون لأي عبادةٍ سواها.
ومن جديد، يدخل التعذيب كأمرٍ واقع حين تتغير الآية، فتصبح الكنيسة، شريكة الإمبراطوريات والسلطات في الحكم، بعدها، لن يصبح هناك راحة لا للوثنيين ولا الكفار، ولا لأولئك الذين يوصمون بالسحرة، فهؤلاء سوف يتم إحراقهم في أغلب الأحيان، أو ربط أطرافهم بالحبال وشدّهم في اتجاهين متعاكسين، حتى تتمزق أجسادهم، أو يتم تركهم دون ماء أو طعام، ليصبحوا قذري الأجساد ونحيلين، فيما يلتهمهم الموت ببطء.

عبر التاريخ لم يسلم العبيد ولا المضطهدون بسبب أديانهم أو أفكارهم من التعذيب الوحشي

ولا يخلو كتاب مينوا، من الإشارة إلى العلماء في القرون الوسطى، منهم من ضرب أمام الناس وأحرقت كتبه، ومنهم من صلب في محاكمات التفتيش التي غالباً ما كانت تنتهي بتهمة "الهرطقة ضد الدين"، وهي تضع مصير المتهم أياً كان مباشرة في يد الكنيسة، التي كانت تعبر "عن غضب الإله من خلال تعذيبها المتهم".
ولعلّ أبسط ما كانت تفعله الكنيسة بشأن العلماء، هو تعذيبهم بنفيهم وفرض الإقامة الجبرية بحقهم، ومن ثم منعهم من العمل أو الكتابة، ودفنهم خارج المقابر المسيحية، مثلما فعلت بحق "غاليليو"، الذي نفي من إيطاليا إلى هولندا، بعد محاكمة استمرت عشر سنوات، بدأت العام 1623، وانتهت العام 1633، نتج عنها نفيه حينذاك، ليموت أعمى ومنبوذاً.

محاكم التفتيش كانت تنتهي بموت بطيء وتعذيب شديد عادة

المسيحية ذاتها، كانت دخلت في انقسامٍ عبر تاريخها، أفرز طائفتين؛ الكاثوليك والبروتستانت، خاضتا حروباً ضد بعضهما، وأصبح التعذيب أهم من القتل في بعض معاركهما، وتمثل غالباً في تقطيع الأطراف بالسيف.
وحتى في الحروب الصليبية، وفي عصر محاكم التفتيش بالأندلس بعد انتهاء حكم المسلمين والعرب هناك خلال 1478 ميلادية، وحسب روايات تأريخية مهمة، مثل "اللوح الأزرق" للكاتب والباحث الفرنسي "جيلبرت سينويه"، فإن "حفلات الشواء البشري لأجساد أولئك المذنبين كون دينهم غير دين أصحاب السلطة والقوة، كانت ترعب المتفرجين، بل وترعب حتى الحيوانات المفترسة التي كانت تتفرج من بعيد".

تجربة سجن ستانفورد أثبتت قدرة إنسان سوي على التحول إلى شخص متوحش في حال تم  منحه سلطة مطلقة

وكانت البشرية، كلما تقدمت، لم تنسَ في خضمّ تقدمها، أن تطوّر من أساليب التعذيب، ولم يكن الشرق في الصين وبلاد المغول غائباً عن هذا التطور كذلك، فربما أنّ التاريخ لا ينسى وسائل تعذيب مثل "الإيهام بالغرق من خلال الماء"، أو "الإيهام بالخنق".
وبعد الحرب العالمية الثانية، انتشرت وسائل التعذيب المتطورة، ولم يعد العنف "كالصعق بالكهرباء أو الضرب"، وسيلة تعذيب مهمة، بل صار السجانون في سجون متعددة في أنحاء العالم، وسواء كانت سجون متهمين جنائياً، أو ثواراً وطنيين كما في الجزائر سابقاً وفلسطين المحتلة حتى اليوم، فإنّ الماء والإيهام بالخنق، والإجهاد من خلال المنع من النوم لأيام، واستخدام أصواتٍ صاخبة عالية لأيام من خلال أجهزة صوتٍ تسلط في غرفة السجين، كلها صارت وسائل متاحة، وتبدو أمام العالم (مشروعة) ولا تترك أثراً، وبالنسبة للسجّانين والمحقّقين، هي أكثر راحة وفاعلية. وفي كتاب "نفخة يتحدث"، يشرح المؤلف وعضو حركة فتح الفلسطينية "جبريل الرجوب"، معظم وسائل التعذيب هذه.
كذلك التخويف بالحيوانات المفترسة، وهو مشهد ليس بحاجة لإثبات، بعد أن شاهد العالم كله هكذا مشاهد في سجن أبو غريب بالعراق، بعد احتلال أمريكا له في 2003 بحجة جلب الحرية والأمان والحضارة، وكانت مشاهد التعذيب في السجن حينها أغرقت فضائيات العالم، إضافة للتعذيب النفسي والتهديد، من خلال إذلال السجناء أو تعريتهم، أو تعذيب عائلاتهم أمامهم.
ولا بد أنّ تاريخ البشر، الذي يزخر بالحروب والمذابح وحفلات التعذيب الفردية والجماعية، لمفكرين وعلماء ومتدينين وكفرة مفترضين، وبشرٍ عاديين، لم يسجل كل شيء عن الرعب، ومن يقرأ تاريخ ابن خلكان "وفيات الأعيان"، لا يستطيع إلا الشعور بالخوف، وهو يقرأ كيفية تعذيب وتقطيع أوصال العالم المسلم "عبد الله ابن المقفع"، الذي "أطعمه معذبوه أوصاله وهم يحرقونه في فرن مشتعل" بعد اتهام والي البصرة "سفيان ابن المهلب" له، أنه زنديق، بعد خلاف بينهما العام 759 ميلادية.

علم النفس: التوحش طبيعي
السؤال معقد إذا طرح؛ هل التوحش طبيعي؟ ففي حال حانت فرصة لشخصٍ ما، أن يكون سادياً، أو صاحب قوة تمنحه السلطة ليتحكم بأجساد الناس ومصيرهم، فهل سوف يسارع لاستغلال هذه الفرصة بكل توحش؟
لا إجابات عظيمة، أو نماذج ثابتة ويمكن في هذا الإطار، ذكر التجربة العملية الأشهر في هذا الشأن، وهي تجربة (سجن جامعة ستانفورد) التي أجريت العام 1971، بإشراف عالم النفس "فيليب زيمباردو".
وبحسب تقرير التجربة، المنشور في العام ذاته، وتم توثيقه في سجلات الجامعة، فإن عالم النفس أعلن عن فرصة للتطوع في التجربة، حيث تم اختيار 24 شخصاً بعد اختباراتٍ علمية للتأكد من سلامتهم النفسية وأهليتهم للتجربة.
بعد ذلك، وُزِّعت الأدوار على المتطوعين عشوائيّاً بين حراس وسجناء، وبدأت التجربة بإعطاء الحراس اللباس الخاص بهم، والنظارات السوداء لمنع التواصل البصري مع السجناء، ومن أجل تعزيز دور السلطة والقوة في الحرس، الذين استخدموا العصي أيضاً كأدوات لفرض سلطتهم من خلال التخويف.

صورة من فيلم عن تجربة ستانفورد

أما السجناء فجرّدوهم من ملابسهم وهوياتهم، وأعطوهم أرقاماً عوضاً عن أسمائهم، وسلموهم لباس السجن، وبذلك يتعامل الحارس مع رقم، وليس مع شخص لديه كرامته وحقوقه الخاصة، وكان الحرّاس يعملون في مناوبات خلال اليوم على مدى ثماني ساعات للفترة الواحدة.
ولكن التجربة، التي كان من المقرر أن تستمر لأسبوعين، انتهت في اليوم السادس، بعد أن أصبح الوضع لا يُحتمَل، وصارت الإهانات والضغط النفسي على المساجين بسبب الحراس لا تطاق، بداية بالعقوبات الجسمانية، مرورًا بالإهانات والقرارات العشوائية، كإيقاظ السجناء من نومهم وطلب عمل تعداد أو تمارين، وإجبار السجناء على تطبيق تصرفات مؤذية على بعضهم البعض. وأشياء مرعبة عديدة، حصلت كلها في ستة أيام فقط.
في ذلك الحين، نشرت مجلات وصحف ما جاء في تقرير العالم، وبدا ذلك مرعباً ومخيفاً، وأثار استهجان الكثيرين، من باب أنّ البشر تغيّروا وتقدموا، إلا أنّ التغير والتقدم، لم يوقفا التعذيب إلى اليوم، ومنه ما هو معلن، وما هو مخفي ربما.
أما أساليبه، فتقدمت وتطورت كما ورد في هذا التقرير، تماماً مثلما تقدم هذا العالم، الذي لايزال علماء الجينات مثلاً، يبحثون فيه عن "جين الشر"، بينما يرى المفكرون عموماً، أنّ أسباباً اجتماعية ودينية وسياسية تقود إلى ممارساتٍ وحشية كالتعذيب، ويجب التخلص منها بإشاعة المساواة والتسامح، لكنها أسباب لا تزال قائمة حتى اليوم. ويظل ربما؛ تحول أشخاصاً طبيعين ومؤهلين بنظر علم النفس إلى وحوشٍ خلال ستة أيام في تجربة "زيمباردو" لغزاً، يضع الإنسان أمام نفسه، أو في مواجهة الوحش الكامن ربما، في الداخل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية