تراثُ قتل وذبح وفتن أم تراث حب؟

تراثُ قتل وذبح وفتن أم تراث حب؟

تراثُ قتل وذبح وفتن أم تراث حب؟


22/02/2024

أنْ يُدير الناسُ في منطقتنا الشأن الديني بإرادتهم المستقلة وبعيداً عن سلطة الحكومات والدول فهذا طموحٌ لم تُمهَّد الطريق الطويل إليه بعد. فالمجتمعات، وليس الجماعات والعصبيات المتشظية، هي القادرة على تمثيل مصالحها وشؤونها، وبغياب المجتمعات تغيب القوانين المُنشِئة لاجتماعٍ عفيّ، وبغياب المجتمعات الحرّة تغيب التوافقات الوطنية، وتغيب السياسة؛ بما هي إدارة للشأن العام، بالسّلمِ لا بالعنف، وبالتنازلات المتبادلة لا بالمعادلات الصِفرية. من هنا تقتضي الواقعية وعدم القفز في الهواء تخفيض ذاك الطموح، والحديث في المرحلة الحالية عن أهمية تطوير وتفعيل دور المؤسسة الدينية في تحصين المجتمع الأهلي من التفكّك والتشدّد والتطرف، خصوصاً في البلدان التي لا يزال لهذه المؤسسة حضور إيجابي  فاعل في البناء الاجتماعي، ومثال ذلك الطُرق الصوفية في غرب أفريقيا، التي هي السياج الحامي للمجتمع من مخاطر التفكك والتطرف. وقد دلّ استطلاع أجراه مركز الإمارات للسياسات في آذار (مارس) 2016 على أنّ المؤسسة الدينية تحظى بثقة عالية لدى المواطن الإماراتي. ويمكن استثمار ذلك في تعزيز جهود إصلاح المؤسسة الدينية باتجاه تقديم خطاب ديني يتأسس على احترام كرامة الإنسان وحريته وصون حقوق الآخرين وتعزيز المشترك الإنساني ونبذ التعصب.

وزارات الأوقاف التى سعت إلى احتكار المجال الديني لصالحها، خلقت مجالاً دينياً موازياً لم تكن هي حتى أحد أطرافه

وثمة من يرى أنّه لكي تقوم المؤسسات الدينية الرسمية بدورٍ فعّال في مواجهة خطاب ممارسة العنف باسم الدين، عليها أن تبدأ أوّلاً بإصلاح المجال الديني، قبل أن تشرع في إصلاح الخطاب الديني (1). ويقوم إصلاح المجال الديني، وفق هذا الرأي، على خطوتين أساسيتين:
أولاً، ضرورة محافظة المؤسسة الدينية الرسمية على استقلالها عن النظام السياسي، وإدراك الحدود الفاصلة بين مؤسسات الدولة والنظام السياسي. فالمؤسسات الدينية الرسمية هي جزءٌ من مؤسسات الدولة، غير أنّ عليها أنْ تحافظ على مسافة واحدة حيال كل القوى السياسية، بما في ذلك النظام الحاكم، حتى تضمن استقلاليتها وتستعيد شرعيتها داخل المجال الديني.
ثانياً، ينبغي أن تتخلّى المؤسسات الدينية الرسمية عن سياسة احتكار المجال الديني، وأن تفتح أبواب المجال الديني أمام كل الفاعلين الدينيين، طالما أنّهم (يلتزمون القانون) ويبتعدون عن خطاب العنف والكراهية. ويذهب هذا الرأي إلى القول: ليكُن دورُ المؤسسة الدينية الرسمية إدارةَ المجال الديني وفقاً لقواعد محايدة تُطبَّقُ على الأطراف العاملة جميعها، من دون استثناءات، وليس احتكاره لصالح خطاب ديني واحد. ويجادل هذا الرأي بأنّ سياسات وزارات الأوقاف ووزارات الشؤون الدينية الحالية في المنطقة العربية تدفع بقطاعٍ من الشباب إلى هجرة المجال الديني الرسمي والبحث عن المعرفة الدينية خارجه، ما يدفع إلى نشأة مجالٍ ديني موازٍ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والاجتماعات الخاصة. هذا يوفرّ بيئة حاضنة خصبة للتنظيمات السلفية الجهادية كي تنشر أفكارها وتجنّد أعضاء في ظل غياب أيّ سلطة لمؤسسات الدولة على تلك المساحات الموازية. والحال أنّ وزارات الأوقاف التى سعت إلى أن تحتكر المجال الديني لصالحها، خلقت من دون أن تدري مجالاً دينياً موازياً لم تكن هي حتى أحد أطرافه. والحقيقة أنّ من المهم اقتران قبول هذا المنطق بجهدٍ حقيقي لصون الحريات العامة والخاصة.

على المؤسسات الدينية تعزيز جهود إصلاح خطاب ديني يتأسس على احترام كرامة الإنسان وحريته وتعزيز المشترك الإنساني ونبذ التعصب

في المقابل، يرى رضوان السيد أنّ ثمة من يعتبر المؤسسات الدينية عقبةً كأداء ينبغي إزالتها، وأنّ هؤلاء يشكُون من أنّ هذه المؤسسات ما تزال «تقليدية»، وما تزال تعتمد: الموروث وتغرفُ منه. ويعتقد السيد أنّ هذا الموقف من المؤسسة الدينية يشابه ما يفعلُهُ المتطرفون وجماعات العنف، ويرى أنّ هذا بالفعل غير صحيح؛ "فالمتطرفون ضد التقليد وضد الموروث، وهم يقولون إنهم لا يعودون إلاّ إلى الكتاب والسُنة، وبالطبع فإنهم في عمليات «التأصيل» هذه يرمون لقطع النصوص عن سياقاتها لكي يسهُلَ عليهم استخدامُها فيما هم بسبيله من تخريبٍ وعنف. والمثقفون (أو معظمهم) يعرفون ذلك، ولكنهم ما يزالون يتشبثون بـ«تقاليد» الإصلاح الديني الأوروبي، المعادية للدين، ويتعمدون خلْطَ الدين بالأصوليات، لتبرير عدائهم للمؤسسات (الدينية) أياً يكن ما تقوم به". (2)
وربما نتجنب هذا الخلط، الذي يشير إليه السيّد، إذا ما ركّزنا الجهود على القيم الكلية في الدين، ولم نتورط بتأبيد المتغيرات التي عكست حركة الاجتماع على مدار الخبرة التراثية الإسلامية.   وحتى نصل إلى هذا الحدّ نحتاج العقل النقدي الذي يتساءل:"نحن مع التراث ولكن أي تراث؟؟ تراث قتلٍ وذبحٍ وفتنٍ أم تراث حبٍّ وخير وحضارة (وعمران) ؟ لا مستقبل من دون تراث. ولكنه الجانب الإنساني والأخلاقي المشرق من التراث، تراث (العلوم) والشعر والأغاني والخير والأخلاق والفلسفة والفن. في تراثنا ما يُلهم، ولكن في تراثنا ما يجب أن نناقشه ونقبله أو نرفضه. لقد قالوا – وهذا صحيح – إن تراثنا سبّب نهضة أوروبا، ولكن لم يقولوا أي تراث! إنها الفلسفة والفكر والعلوم والفنون وليس تراث التشدد، والنزاع على السلطة، ونشوء المذهبية والطائفية". (3)


الهوامش:

(1) جورج فهمي، التجديد الديني في مواجهة العنف، صحيفة الشروق ، القاهرة،(24/8/2015)
(2) رضوان السيد، المؤسسات الدينية والمثقفون، صحيفة الاتحاد، أبوظبي (5/6/2016)
(3) حوارية مع ذوقان عبيدات، صحيفة ذوات الإلكترونية، الرباط، (2/6/2016)



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية