ترسيخ الطائفية: هل يمكن أن تتجاوز الحركات الجهادية الانقسامات المذهبية؟

ترسيخ الطائفية: هل يمكن أن تتجاوز الحركات الجهادية الانقسامات المذهبية؟


18/12/2021

أحمد زغلول

شهدت الكثير من المجتمعات باختلاف ثقافاتها حضورًا لظاهرة الجماعات المسلحة مع تنوع مُسببات ظهورها ومُبررات وجودها وتطور مساراتها. وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تم تديين الظاهرة في ظل مركزية الجهاد في النص القرآني الذي حظي بتفسيرات متراكمة على مدار التاريخ الإسلامي، الذي شهد أحداثًا تَماهى فيها النّص القرآني مع التّفسير البَشري والسلوك السياسي؛ ليمثل كل ذلك أداة حشد وعاملاً مُغذيّا ومُهيّئًا لاستمرارية الجماعات المسلحة -الجهادية كفكرة وكتطبيقات مختلفة سواء تنظيمات محلية أو معولمة.

ومع تعاظم السلوك الطّائفي، الذي وَسم المَسار الجهادي في السنوات الأخيرة وأزّم العلاقات بين مُختلف الأديان، بما يهدد تماسك المجتمعات العربية. وزادت حدة الانقسام في المجتمعات العربية، بحيث تبلور الرافد المذهبي ليتأجج الصّراع على أرضية الدّين الواحد. وهو ما يَطرح تساؤلاً حول مَدى قُدرة الجَماعات المُسلحة الدّينيّة على الاستمرارية في حال استطاعت المجتمعات العربية تجاوز الإرث المرير للصراعات المذهبية والطائفية.

الجهاد في الممارسة التاريخية

لا يمكن فصل الحضور الجهادي ومنازعته للسلطة عن ظاهرة العنف السياسي. وهي ظاهرة إنسانية قديمة تطورت أوضاعها ودوافعها بتطور المجتمعات الإنسانية. ومع تزايد حضور الأديان في الحياة اليومية وصراعاتها، تنامى الحشد الديني والأيديولوجي كأداة قادرة على تجاوز الخلافات الشخصية أو السياسية حيث تُسبغ على أنشطتها نَزعة قُدسية تَسمح لها بالبقاء والتّمدد.

على مدار التاريخ الإٍسلامي، وفي مُختلف الصّراعات السيّاسيّة كان الحَشد الدّيني هو السائد مقابل تلك المُواجهات مُرتكزًا على تَعظيم فريضة الجهاد ورفع الظّلم ونصرة الضّعيف وتَغيير المُنكر، وغيره.  وبهذا، يأخذ التأويل الديني لفريضة الجهاد على مدار السنوات مناحِ مُتباينة عبر تضخيم بعض صور الجهاد وطمس الأخرى؛ بهدف تعظيم الجانب القتالي منه ، وسحبه كنتيجة حتمية ذات الأولوية-شبه المطلقة- على باقي صور الجهاد التي يذخر بها التراث كجهاد النفس. إضافةً ترسيخ تصور يتعلق باعتباره فرضَ عين على الجميع القيام به دائمًا وغض الطرف عن بيان متى يكون فرض كفاية قيام البعض به يُسقطه على الجماعة.

في تفكيك المشهد الجهادي

مع سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، برزت فكرة الجماعات الإسلامية السّاعية إلى إعادة الخلافة باعتبارها فريضة وقضية مَصيرية. ومع اختلاف التصورات المُتعلقة بكيفية تلك العودة، ما بين بناء المُجتمعات من أسفل بتربية الأفراد، أو العمل عل التّمدد السّياسي وفق الآليات القائمة ثم تَديين النّظام من أعلى، يبرُز تَدريجيًّا الخَط الجهادي في ظل تنامي أفكار التكفير الرافضة للواقع القائم. 

بالاقتراب من المشهد الجهادي، نجده عبارة عن تيار فِكري مُتنوع التّطبيقات التّنظيمية. تتلخص رُؤيته العَامة على أن المُجتمعات الحالية تَعيش في جَاهلية ما قبل الإسلام، وأنّ حُكومات الدّول المُسلمة خَارجة عن الإسلام ووَجِبَ جِهادَها لتَحكيم شَرع الله، وإقامة الدّولة الإسلامية. والصُورة المُثلى لتَحقيق ذلك هي التّغيير الشّامل من أعلى عبر الانقلاب المُسلح على رأس الدولة؛ بحيث يُمكن التّحكم سريعًا في مَفاصل الدّولة، بما يُمكّن هذه الجَماعات من إِعادة تَأسيس المُجتمع بيُسرٍ وِفق قَواعدها. وبالنّظر إلى بِنيه هذا التّيار الحَركيَة، نجدها تحمل في جَوهرها أسبَاب تَشرذمه المُتسارع أكثر منها قدرته على الاندماج.

وعليه، فهناك مجموعات حركية مُتنوعة الحجم هي بمثابة التطبيق العملي للأفكار يتحرك كل منها وفق ما يراه مُنظّرها أو قيادتها الذي ينتخب سنده الشّرعي ويُؤوله بما يَتّسق مع سِماته النّفسية وخِبراته الشّخصية ومُستوى ثقافته، وبما يُناسب قَضيَته التي يَطرحها. تظل الفروقات بين هذه الجَماعات على تَنوعها دَقيقة يمتزج فيها الفِكري بالسياسي. ومع مركزية التكفير في العقل الجهادي، تظل الخلافات الشّخصية حول استراتيجيات الحركة مِعياراً مُهمًا للخلاف ومن ثم الانشقاق، وهي السّمة المُميزة لذلك التّيار الذي اعتاد مُتابعوه على ظُهور واندثار وانقَسام جماعاته من وقت لآخر، يُغذي ذلك مَركزية التّكفير في العقل الجهادي.

نحو تطييف الجهاد

يعكس تَنامي الخِطاب التّكفيري -ومن ثم الجهادي- في القرن الأخير في بعض جوانبه أزمات العقل الإسلامي نظريًّا وعمليًّا تجاه الدولة الوطنية في ظل تَغوُّل أسئلة الوَاقع المُتعلقة بطبيعة وشكل الدولة، وموقع الإسلام كدين وكنظام سياسي، والمَشروع السّياسي والاجتماعي المُستهدف تَحقيقه. ومع عجز العَقل التَنظيري الحَركي- في ظل أحادية رُؤيته وتَصوراته- على طرح آليات التّغيير المُختلفة وفق العَصر بحيث تُناسب تَطور المُجتمعات، نجده يُعاوِد النّظر إلى النّص الدّيني ويَنتخب تَأويلاته ويُضخّم أهميتها ونتائجها المُنتظرة، كخطاب قادر على الحشد واستمرار تماسك الأتباع. 

 ساهم في بَلورة ذلك تراكم عدة عوامل أبرزها؛ 

طبيعة الأوضاع السّياسية الداخلية في سَنوات ما بعد الخلافة وسيادة الحقبة الاستعمارية في العالم الإسلامي. كانت الفجوة قائمة بين تَحديات ذاتية لمُجتمعات ظلّت مُغلقة لفترات طويلة بعيدة عن مختلف صور التحديث، إضافة إلى حقبة عالمية جديدة قيد التّطبيق بالأمر بالواقع تعمل على تَشكيل العَالم الإسلامي وواقع المُسلمين بأيادٍ خارجيّة غير مُسلمة بصفة مركزية. 

تعميق النفوذ الأجنبي على المشهد الوطني المحلي بصورة مباشرة أو غير مباشرة حيث حرص الاستعمار على إدارة نفوذه بمغذيات طائفية في إطار سياسة “فرق تسد” فمنحت بعض مصادر القوة الأقليات دينية في مجتمعات أغلبها مسلم وحوّل الغالبية إلى أقلية عمليًّا.

تنامي بعض الأفكار الدّينية ذات النزعة الاستعلائية كالسّلفية التي عظّمت التّصور الأُحادي للدّين الأمر الذي امتد إلى ما قَدمته من تفسيرات لمختلف المفاهيم ومنها الجهاد. ليكون الإقصاء للمُخالف هو الأصل سواء في التّنظير أو المُمارَسة، وبالتالي كانت تَطييف الجهاد عَاملاُ مُغذيًّا لاستمرار الحُضور. فبعد أن كان الجهاد القِتالي مُوجّهًا للدّفاع عن الأوطان أصبح يَستهدف المُخالفين للدين وفق تصورات تلك التنظيمات للدين وضروراته. 

التمدد الإقليمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ نجاح ثورتها عام 1979؛ حيث غذت وعمّقت البعد الديني الاحتجاجي بدعم المذهبية، في ظل سعيها إلى تمثيل مصالح الشيعة والدفاع عنها في مختلف أنحاء العالم وفق دستورها. 

دور التنافس السياسي في دعم الصراع السني الشيعي عبر تنظيمات طائفية؛ حيث حظيت تلك التنظيمات بدعم مادي وعيني من إيران والسعودية لأسباب مذهبية كحزب الله والحوثيين، والإخوان المسلمين وطالبان وجماعات سلفية مختلفة، في سياق منافسات كلا الطرفين على زعامة العالم الاسلامي. وإن تجاوز الدعم الايراني الإطار المذهبي بدعم مجموعات سنية كحركتي الجهاد وحماس في فلسطين في إطار سياسي يستهدف ترسيخ رمزيتها الثورية في العالم الاسلامي عبر الارتباط بالقضية الفلسطينية.

أزمة التنظير الجهادي  

أمام تلك التّحديات تَباينت الاستجابات تجاه كل ذلك؛ حيث سَعت بعض الأنظمة إلى بيان أفضليتها الدّينيّة دعّمت خطابات الإسلام أحادي التصور والإقصائي عمليًّا للمخالف أيا كان والمُتساهل في التّكفير والمُغذي ضمنيا للطائفية. ونَجد أيضًا نُظم عَلمانية تتباين مواقفها تجاه حضور للإسلام في المشهد السياسي وترفضه وتعمل على فرض واقع علماني بنسب متباينة ما بين العداء التام للمظاهر الإٍسلامية أو المتساهلة معه بدرجات. أيضًا وجدت نُظم طائفية سعت لإقصاء الأقليات المُسلمة -كالهند في بعض الاوقات- ومنعها بعض حقوقها. 

بمرور الوقت، يحدث التّماهي بين كل ما سبق في العَقل الجهادي مع أُحادية التّصور الغالبة عليه وتعاظم شقه القِتالي، ليتم استدعاء فتاوى أصبحت مركزية في العقل الجهادي أبرزها فتاوى ابن تيمية التي أطلقت في القرن السابع الهجري أمام التتار وإسقاطها على العصر الحديث كليّة دون نظر إلى ملاءمتها للواقع من عدمه. نفس الأمر حدث مع اجتهادات وتصورات المنظرين الهنديين أبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي؛ حيث امتدت تأثيراتهما على سيد قطب وغيره من منظري الجهاديين رغم اختلاف بيئات إنتاج تلك الأفكار واختلاف المجتمعات وسياسات نظم الحكم. وإن كانت لتلك الأطروحات الأساسية سياقات زمنية أطّرتها إلاّ أن إعادة تطبيق تلك المنظومة محليًّا تم لأسباب سياسية وشخصية. 

كانت النتيجة الطبيعية ترسخ الطائفية مركزيًّا في وعي التّنظيمات الجهادية بمرور الوقت، لتركز مُمارساتها على الاستهداف على أسس دينية؛ حيث تبرز مفردات كالغرب الصّليبي، الحروب الصليبية، النصارى وغيرها من اصطلاحات “وصمية”؛ وذلك على اختلاف تصورهم للعدو. العدو القريب لديهم يتمثل في المجتمعات المحلية والأنظمة الحاكمة المُوالية للصليبية العالمية وحُلفائها المحليين من المسيحيين وغيرهم من مُخالفيهم في الدين، أما العدو البعيد فيتمثل في القُوى الغَربيّة “الصليبية”.

تطييف الجهادية العالمية 

ساهمت الصراعات السياسية الداخلية في تطييف المشهد الجهادي. ففي ظل المد الثوري الإيراني وخطاب تجييش الشيعة صعد النظام العراقي زمن صدام ضد شيعة الداخل بعد انتفاضة الجنوب في أعقاب حرب الخليج سقوطه عام 2003. تنامى بعد ذلك الحُضور الشّيعي في مختلف أجهزة الدول بدَعم الولايات المُتحدة وإيران، وهو التّوجه الذي دفع بتعظيم حضور خطاب أبو مصعب الزرقاوي المذهبي الذي تصدّر كممثل لأهل السّنة الذين تم إقصاؤهم؛ ليتم استهداف الشيعة بكثافة في سلوك مختلف عن توجهات تنظيم القاعدة” سُني المذهب” الذي كان يتبعه قبل أن ينفصل الفرع العراقي لاحقا ويكون “تنظيم الدولة” عام 2014.

في مقابل ذلك، عمدت بعض القوى الاسلامية “المفترض سلميتها” إلى تحويل صراعها السياسي إلى صراع مذهبي رغبة في حشد حلفاء على أساس مذهبي في ظل غياب مشروع سياسي لها. بدا ذلك في إخوان سوريا حيث رأت في نظام حافظ الأسد نظامًا علويًّا مذهبيًّا يُقصي أهل السنة ويعاديهم قبل احداث حماة 1982. لتستمر تلك الرؤية لاحقًا في ظل تنامي الحضور السياسي للعلويين في غالبية المناصب العليا من منطلق ولاء قبلي يقوم على الثقة أكثر منه وحدة المذهب. ساهم في ذلك العلاقات السياسية الوثيقة بين سوريا والثورة الإيرانية منذ اندلاعها والدعم الكبير الذي حظي به النظام السوري في مختلف أزماته من إيران وإن كان عمليّا لأسباب سياسيّة أكثر منها مَذهبية. وبعد بدء الحرب السورية منذ 2011 يَبرز الخطاب المذهبي من قبل التنظيمات الجهادية، حيث يتمدد تَنظيم الدولة في الأراضي السورية بدافع مَذهبي في مواجه النظام السوري وميليشيات إيران الشيعية الداعمة له.

في ضوء العرض السابق، نرى عدم قدرة الجماعات الجهادية على بلورة خطاب سياسي مناهض للنظم الحاكمة بديلاً عن الخطاب الطائفي أو المذهبي، لذا ظلت حريصة على خطابها الديني كأداة حشد وتمدد. وعليه من الصعب عليها تجاوز أي من تصوراتها الطائفية أو المذهبية، خاصة في ظل بقاء مسببات تلك التصورات سواء الذّاتيّة والمُمثلة في طبيعة الدّولة الوطنية القائمة وأزمات بعض نُظمها الاستبدادية وسياساتها الإقصائية في التعامل مع الآخر -أيّا ما كان- كذلك عدم ادماج حقيقي للأقليات وهو ما يُوفر بقاء لخطاب المظلومية الذي يُتيح لأي كيان أن يَستغل تلك الأزمات ويدفعها للانفجار في مُجتمعاتها.

يُغذي ذلك أزمة العقل الاجتهادي في النظر لمفاهيم مركزية كالجهاد في الدولة الحديثة وتفكيك الجدل الحادث حوله مع غياب منظومة اتصالية حقيقية تُتيح تَعميم واستيعاب مثل تلك الاجتهادات. أيضًا، كان للعامل الخارجي الممثل بصورة رئيسة في إيران دوره في إبقاء الصراع السني الشيعي عامة وفي المشهد الجهادي خاصة في إطار بسط نفوذها كممثل للعالم الإٍسلامي لأسباب برجماتية أكثر منها دينية.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية