تركيا والقس برانسون: بعد لغة التهديد.. لماذا غيّر أردوغان موقفه؟

undefined

تركيا والقس برانسون: بعد لغة التهديد.. لماذا غيّر أردوغان موقفه؟


15/10/2018

منذ بداية العام 2018، ولغة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تتصاعد تجاه قضية القس الأمريكي، أندرو برانسون، المعتقل في تركيا؛ حيث صرّح الرئيس التركي، عبر وسائل الإعلام، بعبارات عديدة مثل؛ "تركيا لن تتراجع" و"العقوبات لن تؤثر على قضية القس"، غير أنّ اللغة "الشعاراتية التصعيدية" لأردوغان أخذت تخفت مع الوقت، وما إن حطت قضية اختفاء الصحافي والكاتب السعودي جمال خاشقجي في تركيا، حتى تم إطلاق سراح برانسون بتاريخ 12 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.

فماذا حلّ بلغة أردوغان التهديدية، وهل من تبريرٍ لتراجع تركيا عن القضية؟

تهديد ثم انسحاب

تبدو قصة القس برانسون معقدة؛ لأنه يعيش في تركيا منذ ما لا يقل عن عشرين عاماً، ويشرف على كنيسة بروتستانتية صغيرة في مدينة إزمير، وكانت أوضاعه في العمل والمعيشة تجري بصورةٍ طبيعية طوال هذه الأعوام، إلى أن "اعتقلته السلطات التركية في تشرين الأول (أكتوبر) العام 2016 على خلفية محاولة الانقلاب ضد الرئيس أردوغان واتهمته بالتجسس وبمساعدة شبكة غولن وحزب العمال الكردستاني المحظور، وهي التهم التي نفاها برانسون بشكل قاطع في حينه". وفقاً لما نشره موقع "الحرة" بتاريخ 12 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.

اقرأ أيضاً: بموجب صفقة.. أنقرة تفرج عن القس الأمريكي

وبالنظر إلى فترة الانقلاب، فإنّ تركيا شهدت حملات اعتقالاتٍ واسعة طالت أشخاصاً مختلفين منهم؛ عسكريون وصحفيون ومعارضون لسياسات أردوغان، ما جعل اعتقال برانسون يأتي ببساطة ضمن حالة احتقانٍ مكّنت النظام التركي من اعتقال وسجن معظم معارضيه. الأمر الذي يضع اعتقال القس، على الأرجح، في خانة استغلال الظرف السياسي، خصوصاً أنّ فتح الله غولن، أهم المعارضين المطلوبين لتركيا، مقيم في واشنطن التي تأبى تسليمه، فبدا في ذلك الوقت أنّ برانسون ورقة مناسبة للضغط على أمريكا.

سياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية أسهمت في إضعاف تركيا اقتصادياً ومن ثمّ الرضوخ لمطالب أمريكا وعقوباتها

بعد اعتقال برانسون، ظهرت على السطح لغةٌ متعالية قادها الرئيس التركي، ربما مثلت دافعاً إيجابياً للكثيرين، في أنه يمكن مواجهة واشنطن؛ سياسياً ودبلوماسياً، وخاصةً من ممثلي حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحلفائه الذين يدعمهم من جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم. وعلى هذا الأساس، طالب أردوغان أمريكا بـ "مبادلة برانسون بفتح الله غولن" وفقاً لما ذكرته قناة "الحرة"، وهو ما رفضته واشنطن رفضاً قاطعاً. واستمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالمطالبة بإطلاق سراح القس دون شروط منذ ذلك الحين.

استمر الرئيس الأمريكي ترامب بالمطالبة بإطلاق سراح القس برانسون

أمريكا، ردّت مباشرة على مطالب أردوغان، وعلى إبقاء برانسون محتجزاً مدة عامين في تركيا، فتصعّدت الأزمة بين البلدين من خلال "القيام بفرض عقوباتٍ على تركيا في الأول من آب (أغسطس) الماضي؛ حيث شملت العقوبات وزيري الداخلية والعدل التركيين، بعد اتهامهما بلعب دور رئيسي في اعتقال واحتجاز القس. الذي جاء لأسبابٍ دينيةٍ وليست سياسية على حد زعم أمريكا في حينه". بحسب ما نشرته قناة "روسيا اليوم".

كانت لغة أردوغان حازمة وأعلن أنّ العقوبات الأمريكية على بلاده هي حرب اقتصادية وأن على الأتراك خوض نضال وطني

كما قامت أمريكا في العاشر من آب (أغسطس) من الشهر نفسه، بمضاعفة الرسوم على وارداتها من الفولاذ والألمنيوم التركيين إلى 50% و20% على التوالي.

ونتيجةً لهذه العقوبات، وبعد تصعيد الرئيس أردوغان لغته تجاه القضية العالقة، تعرضت تركيا في آب (أغسطس) الماضي، إلى هزةٍ طالت عملتها "وانهارت قيمة الليرة التركية بنسبة 16% خلال يومٍ واحد"، بحسب ما نقلته "روسيا اليوم". وكان رد الرئيس أردوغان أنّ "حرباً اقتصادية بدأت"، وأنّ على الأتراك دعم عملتهم من خلال استبدال أي أموال أجنبية لديهم بالليرة التركية؛ حيث صرح في حينه تصريحاً تبادلته وكالات أنباءٍ مختلفة حول العالم، قائلاً إنّ دعم الأتراك لعلمتهم هو "نضال وطني".

اقرأ أيضاً: هل تسبّب القسّ الأمريكي حقّاً بالأزمة التركية؟! معارض تركي يكشف الحقيقة

ولا يبدو مما سبق، أنّ أردوغان أولى في حينه أي اهتمامٍ للعقوبات الأمريكية، كما بدا واضحاً أنّ احتجاز القس عملية عادلة، تمس أمن تركيا وسيادتها على أرضها، فلماذا انهار هذا كله فجأةً وذوت شعارات أردوغان؟

حكم برانسون باسم العدالة والسيادة وأطلق سراحه لذات السبب

تراجع ورضوخ

بعيداً عن نداءات جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي بدعم تركيا وعملتها في مواجهة أمريكا بعد أزمة الليرة تركيا، وتصريحات أردوغان النارية. يمكن للنظرة الموضوعية إلى الاقتصاد التركي، أن تبرر مدى الهوة الواسعة بين الواقع وبين أحلام أردوغان في مواجهة دولٍ عظمى، يبدو من العادل سياسياً مواجهتها، لكن ذلك لا يتم اليوم إلا من خلال القوة الاقتصادية والأخلاقية والموضوعية التي لا يستخدمها الرئيس أردوغان في سياساته الخارجية.

اقرأ أيضاً: الكشف عن عقوبات أوروبية سرّية وأثرها في الاقتصاد التركي

وتظهر دراسة، نشرها معهد "سياسات الشرق الأوسط" في 17 آب (أغسطس) الماضي، مدى إسهام سياسات أردوغان الاقتصادية في عدم تحمل العقوبات الاقتصادية الأمريكية. وفي هذا السياق، يقول المحلل الاقتصادي ماكس هوفمان في الدراسة:

"تركيا في خضمّ أزمة اقتصادية. ويمكن لبنكها المركزي أن يخفف من هذه الضغوط من خلال رفع أسعار الفائدة، لكن المؤسسة لم تعد تملك الحرية اللازمة لنقض اعتراضات أردوغان على هذه الخطوة. لقد تم ضمان جزء كبير من الشرعية المحلية لحزب العدالة والتنمية الحاكم على أساس النمو الاقتصادي الذي تغذيه مشاريع البناء، التي تعتمد بدورها على القروض والائتمانات الأخرى. وبدءاً من التسعينيات، وعندما كان أردوغان عمدة إسطنبول، بنى نظام محسوبية واسع النطاق من خلال تسليم مشاريع كهذه إلى أتباعه".

تعنت أردوغان وإسهام حزبه في هشاشة اقتصاد تركيا انتهيا بالرضوخ للواقع

ويضيف هوفمان "كان الرئيس يدرك أنّ الديون التي تسبب بها نظام محسوبياته سوف تظهر قريباً، وهو ما جعله يحمل الأزمة الاقتصادية الأولى في بلاده العام 2013 إلى الغرب، وبالتالي، فإنّه من المتوقع أنّ العقوبات الأمريكية سوف تكشف المزيد من عيوب الاقتصاد التركي".

تراجعت لغة أردوغان فجأة بعد إصرارٍ لأكثر من عامين وتم إطلاق سراح برانسون فجأة دون تبرير منطقيٍ واضح

ويستطرد هوفمان، متحدثاً عن عبء اقتصادي يسببه وجود 4 ملايين لاجئ سوري في تركيا، وأنه من المتوقع أن يحدث تغيير في ملف القس برانسون، حتى لا تتعقد ظروف الاقتصاد التركي أكثر. وما حصل بالفعل، أنه فجأةً، تم تغيير شهادة الشهود في قضية القس، وتم إطلاق حكم "ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ" كحكمٍ نهائي قضى القس منها عامين في أروقة المحاكم، التي تحدث أردوغان عن عدالتها واستقلاليتها، وأخيراً، تم إطلاق سراح برانسون بعد أقل من شهرين على نشر دراسة ماكس هوفمان.

ووفقاً لدراسة هوفمان، فإن تركيا ممثلة بالرئيس أردوغان رضخت للواقع، ولمنطق القوى الاقتصادية وفعاليتها في الأزمات، كما تم الكشف عن سياساتٍ اقتصاديةٍ هشة، سببت ضعفاً في الموقف التركي، الذي لو كان صحيحاً، على سبيل المثال، لانهار في جميع الأحوال، بسبب بنيته الضعيفة التي أسهم حزب العدالة والتنمية في تكريسها، أما الشعارات التي تناقلها البعض، وروّجت لها جماعة الإخوان إعلامياً، عن ضرورة دعم تركيا في حربها الاقتصادية مع أمريكا، فذهبت أدراج الرياح، أمام موضوعية الواقع.

اقرأ أيضاً: ماذا طلبت تركيا من واشنطن مقابل الإفراج عن القس الأمريكي؟

وبالعودة إلى نقطة البداية، فربما شكلت قضية اختفاء الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتصريحات المتضاربة حول وفاته، فرصةً مناسبة للتراجع عن التعنّت التركي في قضية القس الأمريكي واحتجازه، ذلك أنّ المخلصين للحلف مع أردوغان وتركيا من جماعة الإخوان، منشغلون إعلامياً اليوم في اختفاء خاشقجي، مما يخفف وطأة تغيير الموقف التركي، خاصةً أن التقرب من أمريكا هذه الفترة، وراءه ما وراءه، ليس اقتصادياً فحسب، بل يكشف عن قلقٍ تركي بشأن ورقة الأكراد الذين يمكن لأمريكا أن تدعمهم في سوريا خلال أي وقت. كما يفتح باباً للمراجعات الذاتية، التي يمكن للأتراك أن يخوضوها مع "العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان، وما أفضت به سياساته الاقتصادية من تراجع سياسي واقتصادي لتركيا على الساحة الدولية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية