توظيف العمل الصوفي في مواجهة الظاهرة الإسلاموية

توظيف العمل الصوفي في مواجهة الظاهرة الإسلاموية


28/05/2019

رغم أنّ المنطقة العربية تعجّ بالتديّن الصوفي، وإن كان لصيقاً بما يُصطلح عليه "التديّن الشعبي"؛ فإنّه لم يتمّ تسليط الضوء العالمي عليه بشكل شبه مكثف؛ إعلامياً وبحثياً، إلّا مباشرة بعد اعتداءات 11 سبتمبر، وجاء تسليط الضوء بداية في الساحة الأوروبية؛ لأنّها الأقرب جغرافياً من دول المنطقة، ولأنّ الساحة البحثية هناك ذات تجربة طويلة في تناول الظاهرة منذ قرون، قبل أن يأتي لاحقاً عبر بعض التقارير البحثية الأمريكية.

اقرأ أيضاً: 
لو توقفنا عند الحالة المغربية، على سبيل المثال لا الحصر، فالحضور الصوفي حاضر منذ قرون، حتى إنّ المغرب يوصف بأنّه "بلد الأولياء" بمقتضى الحضور الكبير للعمل الصوفي، سواء كان فردياً أو جماعياً، في إطار ما يُصطلح عليه بالطرق الصوفية، وما أكثرها في الساحة، مقابل المشرق الذي يوصف بأنه "بلد الأنبياء" بمقتضى ظهور الأنبياء هناك بالتحديد.

التصوف يحتاج إلى مزيد صيانة وردّ اعتبار من أهله أولاً قبل صناع القرار دون انتظار أيّة صيانة من الإسلاموية

ومما يُميز العمل الصوفي بشكل عام، على الأقل في المنطقة العربية؛ أنّه لا علاقة له بالعمل الإسلامي الحركي، ونقصد بذلك أنّه لا يروّج للخطاب الديني الذي اشتهرت به أغلب الحركات الإسلامية، على الأقل في بدايات العمل الإسلامي الحركي، من قبيل: خطاب "المفاصلة الشعورية"، و"الحاكمية"، و"الجاهلية"، و"الولاء والبراء"، وما إلى ذلك، لاعتبارات عدة، منها مثلاً؛ أنّ هاجس الفاعل الصوفي يدور حول مواجهة "العدو الأكبر"، ويقصد به "هوى الذات" و"حظوظ النفس"، ولذلك "الجهاد الأكبر" في الاصطلاح الصوفي، تُقصد به مواجهة هوى النفس، وليس صدفة أنّ المتديّن الصوفي لا يُفجّر نفسه، كما أشرنا في إحدى  المقالات، وليس صدفة أيضاً، أنّ أغلب المعترضين على تلك المقالة، كانوا من أتباع العمل الإسلامي الحركي، بل منهم من يدّعي أنّه كان إسلامياً حركياً، ولم يعد كذلك، معتقداً، أنّ التحرر من الجهاز المفاهيمي للمشروع الإسلامي الحركي، يتمّ بين ليلة وضحاها، وهذا محال.

اقرأ أيضاً: التصوف.. هل هو الوجه الروحي للإسلام؟
في هذا السياق، أثير موضوع التصوف، باعتباره ورقة يمكن توظيفها من قبل صناع القرار، ونتحدث هنا عن المنطقة العربية بشكل عام، في سياق التصدي للمشروع الإسلامي الحركي؛ بل روّجت المراكز البحثية الإسلاموية (الإخوانية والسلفية الوهابية)، ومعها المنابر الإعلامية التابعة لهذه المجرات الإسلامية الحركية، بعض مضامين تقرير معهد "راند" الأمريكي الشهير، والصادر بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن بأعوام قليلة، وتضمن مجموعة توصيات في سياق التصدي للظاهرة الإسلامية في نسختها القتالية أو "الجهادية"، ونجد ضمن هذه التوصيات؛ الرهان على العمل الصوفي من أجل سحب البساط عن المشروع الإسلامي الحركي.

اقرأ أيضاً: هل جنى التصوف على حضارة الإسلام؟
واضح أنّنا إزاء خيار مشروع ومرغوب، ما دام الهدف الأسمى من هذا التوظيف الافتراضي، يروم المساهمة في صيانة الدولة والدين من هذا التغول الذي طالها مع كثرة المشاريع الإسلاموية التي تريد أسلمة المجتمع والنظام والدولة، ولكن كي تتحقق مشروعية هذا الخيار على أرض الواقع، لا ضير من استحضار واقع العمل الصوفي، المعني بالتصدي للتحدي الإسلامي الحركي، ولا ضير كذلك من استحضار الأسباب المركبة التي أفضت إلى بزوغ الحركات الإسلامية، منذ 1928 حتى اليوم، هذا دون الحديث عن التوظيفات الإستراتيجية للحركات الإسلامية، كما نعاين ذلك منذ عقود، وليس اليوم.

اقرأ أيضاً: لماذا لم ينجح التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي؟
نقول هذا ونحن نستحضر أنّ حقبة ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، تميزت بتقارب كبير في وجهات نظر الإدارة الأمريكية مع حركات وأحزاب "الإسلام السياسي"، وتكفي العودة وإحصاء عدد اللقاءات التي تمت في هذا السياق، ومن ذلك الرحلة الإخوانية الشهيرة لراشد الغنوشي في المراكز البحثية والجامعات الأمريكية، ويكفي كذلك، استحضار ما كان يُحرره القانوني نوح فيلدمان، ومعلوم أنّ فيلدمان اشتغل على المسودة الأولى للدستور العراقي الجديد بعد الإطاحة بالرئيس العراقي السابق، صدام حسين، وهو الذي ألّف كتابيْن عبارة عن مقدمة تمهّد لدعم واشنطن إدماج حركات الإسلام السياسي في العمل السياسي، والإحالة على كتاب "ما بعد الجهاد: أمريكا والصراع من أجل الديمقراطية الإسلامية"، وكتاب "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها"، وقد ألفهما بهدف تقديم خدمة علمية للإدارة الأمريكية في التعامل مع أحزاب الإسلام السياسي.
يهمنا التوقف عند واقع العمل الصوفي في المنطقة، ومدى قابليته لمواجهة المشروع الإسلامي الحركي.

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟
يمرّ الخطاب الصوفي بعدة تحديات، أحصينا منها ثلاثة على الأقل: تحديات ذات صلة بالذات الصوفية، تحديات ذات صلة بالمحيط القريب، ثم تحديات ذات صلة بالمحيط البعيد.
فأما الأولى، وأخذاً بعين الاعتبار بمُميزات التديّن الصوفي، والذي يقوم على الانتصار للهمّ التزكوي الصرف، أو قل "تخليق الذات"، ومواجهة "العدو الثاني" لهذه الذات، أي هوى النفس، موازاة مع مواجهة العدو الأول: الشيطان، وأخذاً بعين الاعتبار كذلك أنّ إغراءات توظيف التصوف، لاعتبارات شخصية أو أيديولوجية أو سياسية أو غيرها، فإنّ أهم التحديات التي تطال الذات الصوفية في تفاعلها مع حظوظ النفس، تكمن في الرضوخ لهذه الإغراءات، وهذا ما نعاينه على أرض الواقع المادي في عدة حالات إقليمية، منها الحالة المغربية التي نتابعها عن قرب.
بالنسبة إلى تحديات المحيط القريب؛ فنقصد بها مُجمل التحديات المرتبطة بالخطاب الديني بشكل عام، سواء كان خطاباً دينياً وعظياً، صادراً عن مؤسسة دينية، أو مشروع إسلامي أيديولوجي؛ أو كان خطاباً دينياً سياسياً، ومن باب أولى، إن كان الأمر يتعلق بالخطاب الديني القتالي، أو قل "الجهادي"، ومن ذلك خطاب النقد، أو التقزيم، أو الشيطنة، الذي يتعرض له العمل الصوفي من طرف الحركات الإسلامية، والذي تعاديه سياسياً أو عقدياً، ونتحدث عن معاداة سياسية صادرة عن الإخوان، بسبب غلبة العقل السياسي على العقل الديني في الجهاز المفاهيمي الإخواني، ومعاداة عقدية صادرة عن السلفية.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف
وأخيراً؛ يصعب حصر لائحة التحديات التي تطال العمل الصوفي، ذات الصلة بتحديات المحيط البعيد، ونقصد بها بشكل عام التحديات التي تطال الإنسانية جمعاء، بمقتضى "النزعة الإنسانية" التي تُميز الدّين الخاتم، والذي جاء نبيه الكريم رحمة للعالمين، ولكن، يمكن أن نذكر من هذه التحديات ثلاثة على الأقل، ضمن لائحة عريضة من التحديات: الفلسفات المادية المُعادية لتلك النزعة الإنسانية، وإن كانت تدّعي الدفاع عنها. الرأسمالية المتوحشة المعادية للإنسانية جمعاء، وإن كانت تدعي خلاف ذلك. الديانات الرقمية المعادية للديانات التوحيدية، وإن كانت هي الأخرى تدّعي خلاف ذلك.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره السلفيون التصوف؟
وواضح أنّ هذه التحديات التي تواجه الإنسانية جمعاء، تطال المسلمين، وبالتالي على العقل الإسلامي الصوفي مساءلة الذات النظرية الصوفية، عن طبيعة المفاتيح النظرية التي يمكن أن تساعد المسلمين وغير المسلمين على مواجهة التحديات سالفة الذكر.
نعتقد أنّ تفطن أهل العمل الصوفي لهذه التحديات، كفيل بخدمة هذا العمل بما يُفيده من جهة، ويُفيد بالضرورة مجتمعات ودول المنطقة، ما دمنا نتحدث عن مجال جغرافي تميز بالحضور الكبير للتديّن الصوفي، بما في ذلك مواجهة المشروع الإسلامي الحركي، على الأقل الشقّ الإسلاموي الذي لم يُمارس المراجعات، والذي ما يزال مؤمناً بالأدبيات التي أشرنا إليها أعلاه.

ثلاثة تحديات يمر بها التصوف: تحديات ذات صلة بالذات الصوفية، تحديات ذات صلة بالمحيط القريب، ثم تحديات المحيط البعيد

والحال؛ ولو توقفنا عند الحالة المغربية مثلاً، يتضح من خلال تأمل الحضور الإسلامي الحركي اليوم في مؤسسات الدولة من جهة، بما فيها المؤسسات السياسية والدينية والتعليمية، فالأحرى حضوره في منظمات المجتمع المدني، وتأمل وتيرة الاختراق في المؤسسات الإعلامية (الخاصة وشبه العمومية)، وفورة الحضور الرقمي لهذا المشروع، وحضور التمويل، ومعه التأطير والدعم من الخارج، إضافة إلى مقتضى الارتباطات مع مشاريع أجنبية، هذه العوامل وغيرها، تفيد بأنّ توظيف خيار التصوف أعقد من هذا التصور المأمول، أي إمكانية التوظيف الأمثل للعمل الصوفي من أجل مواجهة الخطاب الإسلامي الحركي؛ لأنّ تفعيل شروط ومقتضيات هذا التوظيف، يتطلب قرارات وإجراءات مركبة وجريئة.
هذا دون الحديث عن كون مسألة مواجهة المشروع الإسلامي الحركي، وسحب البساط عن أهدافه وتفرعاته، لا يمكن اختزالها في الورقة الصوفية وحسب، بقدر ما يجب استحضار مجمل الأسباب التي تغذي الظاهرة، في التعليم والدين والإعلام والاجتماع والاقتصاد والسياسة.
ومن ناحية ثانية، وعلى فرض أننا ارتأينا الرهان على ورقة التصوف لتحقيق هذا الطموح المشروع، كما سلف الذكر، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ التصوف في المنطقة ليس مجرد طرق صوفية، وإنما نمط من التديّن، تتداخل فيه عوامل اجتماعية ودينية وثقافية مركبة، ولا يمكن حصرها أو تنميطها في قرار سياسي قد يُفضي إلى حسن توظيف الخيار من أجل مواجهة الإسلاموية، وعلى فرض أن هذا خيار لا رجعة فيه، فواقع الحال يُفيد بأنّ التصوف يحتاج إلى مزيد صيانة وردّ اعتبار، من أهله أولاً قبل صناع القرار، دون انتظار أيّة صيانة من الإسلاموية، لأنّ هذا تحصيل حاصل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية