تونس بين مشروع الجماعة وشرعية المجتمع في ليبيا

تونس بين مشروع الجماعة وشرعية المجتمع في ليبيا


10/05/2020

الحبيب الأسود

تعيش تونس على وقع حالة من السجال في ما يتعلق بالموقف والدور في الشأن الليبي، بعد أن تواترت التسريبات عن تورط قوى سياسية نافذة في فتح أراضي البلاد لدعم التدخّل التركي في الجارة الشرقية الجنوبية، وبعد أن اتهمت قوى ليبية عسكرية وقبلية وبرلمانية وإعلامية السلطات التونسية بالانخراط في العدوان التركي على بلادهم.

يبدو الوضع متشعبا بشكل غير مسبوق، في العام 2011 كانت حكومة تونس ترسل شاحنات المؤونة إلى النظام في طرابلس وتقبض المقابل حالا وتفتح حدودها لتهريب السلاح والخبراء الأجانب والمرتزقة لدعم المتمردين وخاصة في جبل نفوسة.

ومن يذكر تلك الأيام يدرك كيف تحولت مناطق الجنوب التونسي إلى جبهة مفتوحة ضد نظام معمر القذافي، وكيف كانت قطر صاحبة قرار فاعل على مستويات عدة، وكان سلاحها يأتي في صناديق عليها شعار الهلال الأحمر، وتحت يافطة العمل الخيري والإنساني من أجل دعم جماعات كان أغلبها مرتبطا عقائديا بمشروع جماعة الإخوان، وبتنظيم القاعدة الذي تحول ضمن توافق مخابراتي إقليمي ودولي أي جناح عسكري للجماعة في إطار منظومة ما سمي بالربيع العربي.

للتاريخ، كانت أغلب القبائل المتاخمة للحدود مع تونس موالية للنظام السابق، ولا تزال كذلك. وقد تسبب الموقف التونسي في شرخ معها. ولعل قصة آخر أمين للجنة الشعبية العامة في عهد القذافي البغدادي المحمودي، من الأخطاء التي زادت في بلورة رأي عام معاد لتونس على حدودها. يمكن فهم ذلك بأن رجلا كالباجي قائد السبسي رحمه الله، ورغم تجربته السياسية الطويلة، لم يكن مطلعا بما فيه الكفاية عن طبيعة المجتمع الليبي وعن تشعب العلاقات والحساسيات القبلية وتداخلها بين البلدين.

اليوم نعود إلى ذات المشكلة، فليبيا لا تزال تعيش على إفرازات التدخل الأجنبي في العام 2011. ويبدو أن أهم تلك الإفرازات أن الإسلاميين اعتقدوا أن ما حدث كان من أجل عيونهم. وأنهم الموعودون دون غيرهم بالحكم والسلطة والنفوذ، ولو عبر اعتماد الإرهاب والجماعات المسلحة، والاستمرار في نهب المال العام، وتدمير مؤسسات الدولة والاستمرار في محاولات تمزيق النسيج الاجتماعي من خلال محاولة إذلال القبائل الليبية التي تمثل أغلبية الشعب بدعوى أنها كانت الحاكمة خلال عهد القذافي، وسيطرة فئة بعينها على مفاصل الدولة ومفاتيح المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.

اعتمد الإسلاميون في ذلك على الجماعات الإرهابية والميليشيات المنفلتة، ما أدى إلى إطلاق عملية الكرامة في مايو 2014. وانقلبوا على نتائج انتخابات يونيو من ذلك العام من خلال منظومة فجر ليبيا التي أحرقت الأخضر واليابس تحت غطاء أيديولوجي إخواني وجهوي مصراتي، علما وأن أغلب قيادات إخوان ليبيا من مدينة مصراتة.

وأدى تواطؤ المجتمع الدولي إلى إعلان اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 لإعادة تدوير الإخوان من خلال المجلس الرئاسي الذي لم يكن منتخبا، ولم يحظ بشرعية شعبية ولا دستورية، ولم تنل حكومته ثقة البرلمان المنتخب، والذي واجه صراعات في داخله، وإلى تصدعات أفقدته قدرته على القيام بدوره، كما أنه فشل في أن يحقق المطلوب منه وفق الاتفاق وبقي أسيرا لجماعة الإخوان وأمراء الحرب.

تحوّلت عملية الكرامة التي قادها الجيش إلى حراك شعبي في أغلب أرجاء البلاد. ونجحت القوات المسلحة في السيطرة على منابع الثروة وعلى أغلب مساحة البلاد وحدودها مع دول الجوار، ما عدا حدودها مع تونس. واقتربت من الوصول إلى قلب العاصمة، بدعم شعبي كبير، فالعسكريون هم أبناء القبائل والمدن الليبية وكذلك من أبناء الأقليات العرقية والثقافية، ومثلوا في ما بينهم مصالحة وطنية حقيقية لضمان استمرارية المؤسسة العسكرية.

اعتبر الإسلاميون أنهم المستهدفون بالعملية نظرا لتورطهم في دعم الإرهاب في المنطقة الشرقية وارتباطهم بمشروع لا يعترف بسيادة الدولة الوطنية، وينظر إليها كجزء من مشروع عابر للحدود، تقف تركيا وقطر في مقدمة داعميه.

لذلك تدخلت الدولتان بقوة ضد الجيش. وجاء أردوغان بالآلاف من المرتزقة من الفصائل الموالية له في شمال سوريا ليحرروا ليبيا من شعبها. وظهر اندفاع أطراف تونسية لدعم مشروع جماعة الإخوان على حساب شرعية المجتمع الليبي. ومرة أخرى وقعت السياسة التونسية في فخ المعادلة الليبية. وخرجت أصوات من داخل ليبيا تتهم سلطات تونس بدعم الغزو التركي الحامل لمشروع عقائدي يحاول الاستناد إلى تاريخ الاحتلال العثماني الذي قاومته القبائل الليبية بشراسة لا يزال الأحفاد ينقلون مآثرها عن الأجداد.

ويبدو أن تونس تتجه لخسارة علاقتها بالمجتمع الليبي من أجل عيون الجماعة. ولعل ما دوّنه الدبلوماسي الليبي السابق محمد سعيد القشاط منذ أيام خير دليل على ذلك، ولعل ما يكتبه الشعراء الشعبيون من هجاء للموقف التونسي، سيبقى شاهدا تعتمد عليه الأجيال القادمة في التأريخ للأحداث السيئة، بعد أن كانت الأجيال السابقة تفاخر بالتضامن بين البلدين في مواجهة الغزاة الأجانب.

إن الموقف التونسي الحالي وإن كان مرتبطا بجماعة الإخوان في البلدين ومصيرها الذي تراه واحدا، إلا أنه سيكون ذا تأثيرات سلبية على العلاقة المستقبلية بين الشعبين. ولعل الرئيس قيس سعيد الذي يراهن على دور قبائل ليبيا وعلى البعد الاجتماعي للحل يدرك أن العالم المفتوح بات يمنح للمراقبين فرصة مراقبة أي تحرك في البر والبحر والجو، ولم يعد هناك أي مجال لإخفاء الوقائع، كما أن مطارات طرابلس ومصراتة لا تزال تستقبل الطائرات التركية بشكل يومي، لذلك لا حاجة لنقل مساعدات طبية عبر مطار جربة، مثلما أعلن عنه أمس.

من يعرف ليبيا يعرف أن مشروع  تركيا وقطر والإخوان لن ينجح. وأنه لن يزيد الوضع إلا تدهورا، بل قد يؤدي إلى حرب شاملة لن ينتصر فيها إلا الشعب الليبي سواء عاجلا أو آجلا، وسيكون عاجلا.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية