ثقافة التخلّص من الحياة تغزو قلوب أطفال تونس

تونس

ثقافة التخلّص من الحياة تغزو قلوب أطفال تونس


03/10/2018

منير قويعة، فتى لم يتجاوز الأحد عشر عاماً بعد، في الصفّ الخامس الابتدائي من محافظة صفاقس بالجنوب التونسي، قام في الثامن عشر من الشهر الماضي، بشنق نفسه بالقرب من منزله، لفظ أنفاسه الأخيرة بمفرده إلى أن علمت الأسرة بوفاته.

اتخذت ظاهرة انتحار الأطفال في تونس منحى خطيراً خلال الأعوام الأخيرة، ودقّ خبراء ونشطاء، نواقيس الخطر من بروز هذه الظاهرة التي باتت تتوسّع عاماً بعد آخر، ودعوا إلى ضرورة التحرّك للوقوف على أسبابها وإنقاذ أرواح البراءة.

وزير الثقافة التونسي الأسبق لـ"حفريات": التحوّلات الكبرى مثل الثورات والانتفاضات عادةً ما ترافقها ظواهر إجراميّة غريبة

وخلال التحقيقات في حادثة منير قويعة لم تتّهم الأسرة أحداً، لكن روّاد وسائل التواصل الاجتماعي تداولوا خبراً مفاده أنّ الطفل ترك رسالةً مؤثّرة قال فيها إنّه لا يستطيع أن يُحمّل والديه مصاريفه وإنّه لا يستطيع رؤية والدته تبكي وتتعذّب يوميّاً.

أمّا الطفل مهدي بلخاوي، البالغ من العمر أحد عشر عاماً، أيضاً، من محافظة زغوان في الشمال الشرقي التونسي، فقد وُجد، في نيسان (أبريل) الماضي، مشنوقاً داخل منزل عائلته بسبب لعبة الحوت الأزرق، في حين أكّد والده أنّ ابنه انتحر في غفلة من والدته وأخيه باعتباره لم يكن موجوداً في المنزل، مشيراً إلى أنّ سائر أفراد العائلة لم تكن على علم بأنّ الفقيد كان يلعب هذه اللّعبة.

اقرأ أيضاً: الانتحار في العالم العربي يُغيّب الضحايا والوثاثق

وعثر بعد ذلك على الطفلة مريم في التاسع عشر من أيار (مايو) الماضي، مشنوقةً في شرفة منزل والديها بمحافظة القصرين في وسط غرب تونس، بعد أن تركت رسالةً تطلب فيها الاعتذار من عائلتها، فقد أكّد جميع من في الدّار أنّها لا تعاني من أيّ مشاكل نفسيّة.

 

 

هذه حالات متكرّرة تزايدت بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة وتراوحت أعمار الأطفال المنتحرين بين 8 سنوات و17 عاماً، وتحوّلت المسألة إلى ظاهرة مجتمعيّة أسهمت عوامل عديدة في تضخّمها واتّساع رقعتها لتصبح مسؤوليّة اجتماعيّة تتداخل فيها عدّة أطراف وتتقاسمها الدّولة ومؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة.

تحوّلت المسألة إلى ظاهرة مجتمعيّة أسهمت عوامل عديدة في تضخّمها واتّساع رقعتها لتصبح مسؤوليّة اجتماعيّة

وقد رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مستقلة غير حكومية تأسست عام 2011 بهدف الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية)، 41 حالة و محاولة انتحار شهدها شهر شباط (فبراير) لعام 2018.

وشدّد المنتدى على أنّ حالات الانتحار شملت بالخصوص الأطفال، معتبراً أنّ شباط (فبراير) الشهر الأكثر قتامةً منذ بداية الرّصد من قبل المرصد الاجتماعي التونسي، إذ تمّ تسجيل 12 حالة انتحار أو محاولة انتحار أطفال دون سنّ الـ 15 سنة، ولم تكن فقط بسبب لعبة الحوت الأزرق.

وتشير الإحصائيات الصادرة عن المنتدى، بالنسبة للأشهر الستة الأولى من 2018، إلى وجود 281 حالة انتحار ومحاولة انتحارٍ، منهم 45 حالة انتحار لأطفال دون 15 سنة بنسبة 16 بالمائة من مجمل الحالات.

وسجّل المنتدى في إحصائياتٍ سابقةٍ أعلن عنها في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2017، 462 بين عمليّة ومحاولة انتحار منها 34  حالة لأطفالٍ دون الـ15 سنة، وفي عام 2016 بلغت عمليّات ومحاولات الانتحار حوالي 583 حالة منها 40 حالةً لأطفالٍ دون 15 عاماً، حسب المصدر نفسه.

انتحار الأطفال جعل المختصّين ينذرون بخطر يتهدّد المجتمع

الفقر والإحباط من أهمّ الأسباب

تتالي حالات انتحار الأطفال جعل المختصّين ينذرون بخطر يتهدّد المجتمع، وجب التصدّي له ومعالجته في أقرب وقتٍ، حيث أكّد عضو المنتدى الاقتصادي والاجتماعي مسعود بن عمر في تصريحاتٍ صحفيّة في18 الماضي، أنّ هذه الظاهرة أصبحت ملفتةً في تونس، وأنّ الدراسات التي أجراها المنتدى أكدّت أنّ الأطفال الموجودين في الرّيف كما في المدينة يعانون نفس حالات الإحباط، نظراً إلى أنّ العائلة تهمل طفلها وتتركه عرضةً للشّارع وللمؤسّسات غير المهيّأة للتعامل مع هذه الفئات العمريّة الحسّاسة.

اقرأ أيضاً: أطفال يحاولون الانتحار!

ووفق منظّمة الصحّة العالميّة، فإنّ تونس تحتل المرتبة 134، وهي مرتبة متقدمة مقارنةً ببقية البلدان محدودة الدخل، وتعتبر المنظّمة الانتحار "ظاهرة مؤلمة، وجارحة، ونوعاً من أنواع العنف المسلّط على الذات".

وأكّد في هذا السياق، الأخصّائي النفسيّ في المجال التربوي عبد الباسط الفقيه في تصريح لـ"حفريات"، أنّ "الفقر والإحباط والقهر، والإحساس بعدم القدرة على تحقيق بعض الأهداف في الحياة، من أبرز الأسباب التي تدفع الأطفال والمراهقين إلى اتّخاذ قرار بوضع حدٍّ لحياتهم".

وأشار إلى أنّ المنتحرين عادةً ما يقدمون على الانتحار في مكان ظاهر تسهل رؤيتهم فيه، "كوسيلةٍ لمعاقبة الأسرة والمجتمع على التقصير معهم".

اقرأ أيضاً: هؤلاء أكثر عرضة للاكتئاب والانتحار

وشدّد الأخصّائي النفسي على ضرورة الوقاية من هذه الظاهرة، مشيراً إلى أنّ للوالدين "مسؤوليّةً مهمّة تجاه أبنائهم الذين وجب عليهما مراقبة المواد الإعلاميّة التي يستهلكونها، والاطّلاع على المواضيع التي تستهويهم، وعلى الصفحات والمواقع التي يزورونها ويتصفّحونها".

من جهتها، أكّدت عضو المرصد الاجتماعي التونسي نجلاء عرفة في تصريح لـ"حفريات"، أنّه تم تسجيل أعلى نسبة انتحارٍ في محافظة القيروان، التي تُعتبر الأكثر فقراً في تونس بنسبة تقدّر حالياً بـ 34 بالمائة، وأنّ أصغر حالةً سُجّلت كانت تبلغ خمس أعوام.

وأفادت عرفة بأنّ "بعض العوامل التي تعيشها البلاد كتأزّم الوضع الاقتصادي، وتوتّر الأوضاع الاجتماعية وارتفاع منسوب العنف، أثّرت بشكل أو بآخر على نفسيّة الأطفال، وهو ما دفعهم إلى التفكير في إيذاء أنفسهم".

الانتحار في تونس أخذ منحى ملحوظاً منذ أن أقدم البوعزيزي عام 2010 على إحراق نفسه

الأطفال المنتحرون هم "يتامى الثورة"

وتشير آخر الإحصائيّات الصادرة عن مركز البحوث والدراسات الاجتماعية التونسي إلى أنّ نسبة الفقر لدى الأطفال في تونس تناهز 25 بالمائة، في حين أنّ المعدّل الوطني للفقر لا يتعدى نسبة 15.5 بالمائة، وذلك استناداً إلى الدراسات النوعيّة والكميّة التي تمّت بين سنتي 2011 و2015 بما يحيل على السياسات العموميّة الخاطئة التي كانت تنتهجها حكومات ما قبل الثورة لاسيّما في مجال الطفولة.

الانتحار في تونس أخذ منحى ملحوظاً منذ أن أقدم بائع الخضار المتجول محمد البوعزيزي في 2010 على إحراق نفسه

ويرى وزير الثقافة الأسبق وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية مهدي مبروك في تصريحه لـ "حفريات" بأنّ "التحوّلات الكبرى مثل الثورات والانتفاضات عادةً ما ترافقها ظواهر إجراميّة غريبة عن المجتمعات المعنيّة بها، فيتأثر بها شبابها وكهولها، غير أنّ الثورة التونسيّة رافقتها ظواهر شملت أطفالها، منها ظاهرة الانتحار".

وأرجع مبروك ارتفاع هذه الظاهرة إلى "التفكّك الأسري، وارتفاع نسبة العنف داخل العائلة، الذي يزيد داخل الأوساط الريفيّة الفقيرة، فضلاً عن المضامين الإعلاميّة التي لم تعد تراعي التركيبة النفسية للأطفال، فأصبحوا يتأمّلون مشاهد الانتحار يوميّاً في المسلسلات والأفلام الكرتونيّة".

وأضاف المختصّ في علم الاجتماع أنّ المشاكل اليوميّة التي تعيشها الأسرة التونسيّة، من ارتفاع في الأسعار، واهتمام بالقضايا السياسيّة والتحزّب والإعلام، انعكست على سلوك أطفالهم، الذين أصبحوا شيئاً فشيئاً ضحايا المجتمع، و"يتامى الثّورة".

اقرأ أيضاً: في لبنان.. خط ساخن لمحاربة ظاهرة الانتحار.. كيف يعمل؟

الانتحار في تونس أخذ منحى ملحوظاً منذ أن أقدم بائع الخضار المتجول محمد البوعزيزي عام 2010 على إحراق نفسه احتجاجاً على مصادرة سلعه من قبل الشرطة البلديّة، ليشعل بذلك ثورةً عارمة أطاحت بالنظام وانتقلت عدواها إلى أقطار عربية، ليتحوّل بعدها البوعزيزي إلى ملهم لليائسين من جميع الفئات العمريّة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية