جلال أمين يرحل: عاين السياسة كأديب والاقتصاد كعالم اجتماع

مصر

جلال أمين يرحل: عاين السياسة كأديب والاقتصاد كعالم اجتماع


27/09/2018

بغيابه أول من أمس، يفقد العالم العربي أحد أبرز مفكريه، الدكتور جلال أمين، الذي رحل عن عمر يناهز 83 عاماً، بعد أن أمضى أعوام عمره منشغلاً بالعديد من القضايا السياسية والفكرية والاقتصادية، ولم يتوانَ عن تقديم رؤيته ونقده للأحداث الراهنة والمعاصرة، في محاولة دؤوبة لفهم الظواهر الجديدة التي تطرأ على المجتمع المصري، ومدى صلاتها بالماضي.

تعددت اهتمامات أمين ومعايناته المعرفية بين الاقتصاد، وقضايا التنمية والتخلف، وقياس الفقر واللامساواة، بالإضافة إلى سجالاته حول العولمة والتبعية، ورصد التغريبة التي يعاني منها المواطنون العرب والمصريون، إزاء هيمنة المفاهيم النيوليبرالية وسيادة النزعة الاستهلاكية، وتنميط أشكال الحياة، عبر سيطرة وسائل الإعلام التي تحقق مصالح قوى بعينها.

السيرة الأولى

ولد جلال أمين، في العام 1935، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، العام 1955، كما حصل على الماجستير والدكتوراة من جامعة لندن، ومن ثم، شغل عدة مناصب، من بينها أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة عين شمس، في الفترة بين عامي 1965 إلى 1974، كما عمل مستشاراً اقتصادياً للصندوق الكويتي للتنمية 1974 إلى 1978، وأستاذاً زائراً للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا 1978 إلى 1979، وأستاذاً للاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة من 1979 وحتى ما قبل وفاته بفترة قليلة.

اقرأ أيضاً: القاضي الأديب أشرف العشماوي: نجيب محفوظ أهدى رواياته لمن حاولوا قتله

رصد صاحب "ماذا حدث للمصريين؟"، جملة التحولات التي شهدها المجتمع المصري، عبر نصف قرن، وسعى للإحاطة التامة بالظواهر التي شكلت التاريخ الاجتماعي المصري، في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث انطلق مما أسماه "المحنة" أو الأزمة التي تعيش على تخومها قطاعات عديدة في المجتمع والدولة؛ فهناك محنة الاقتصاد المصري، واختلال الهيكل الإنتاجي لصالح قطاعات غير إنتاجية، ما أدى إلى فجوة في مستويات الدخول والفقر، واتساع التفاوتات الطبقية.

ماذا حدث للمصريين؟

وعلى المنوال نفسه، تشيع حالة قصوى من الفوضى والفساد، تتعدد تجلياتها ومظاهرها، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وظهور أنواع جديدة من الجرائم والعنف، بالإضافة إلى ضعف روح التضامن والتعاون المجتمعي، الذي ترافق وتدهور أنماط الحياة، والتي تبرز في السلوك اليومي للمواطنين، على مستوى اللغة المتداولة، مثلاً، واللامبالاة باتجاه القضايا الوطنية والقومية، و"تحقير كل ما هو وطني، في مقابل تقديس كل ما هو أجنبي"، بحسب تعبيره.

وفي ظل تنامي التبعية للغرب، وعجز المعارضة الوطنية عن بناء وعي قومي وديمقراطي حقيقيين، سقط وعي المواطنين تحت وطأة "الخزعبلات" واللاعقلانية في الفكر الديني والتيارات السلفية والأصولية.

غلاف كتاب "ماذا حدث للمصريين؟"

تساءل أمين عن أسباب التعصب الديني الذي شهدته القاهرة، وحواداث العنف الطائفي، في الفترة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ حيث رد عواملها إلى الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقد دشنت حقبة جديدة وخطيرة في تحولاتها الجذرية، أدت إلى تغييرات بنفس الدرجة والحدة في نفسية المواطن؛ وذلك منذ تخلت الدولة عن مسؤوليتها في الحماية الاجتماعية، وتوفير الدعم للمواطنين، وتركتهم نهباً لقيم الاستهلاك ونفوذ المستثمر الأجنبي.

في كتابه "وصف مصر في نهاية القرن العشرين"، يقدم جلال أمين لوحة فنية تصف حال المجتمع المصري

وعلى إثر ذلك، تنامت مشاعر بتضاؤل القيمة وفقدان الهوية، التي انعكست في محاولة تأكيدها، من خلال أردية طائفية وتحقيق التمييز الديني، برزت في انتشار الحجاب بين الفتيات، وإطلاق اللحى، والاستجابة للخطاب المتشدد للقوى الدينية، والعدوان على الكنائس ودور السينما، وغيرها.

وفي هذا السياق يتساءل أمين: "ما الذي يجعل مجموعة من الناس تسير في الشوارع وهي تهتف بأنّ أفراد طائفة أخرى، مخالفة لها في الدين، هم "أعداء الله"؟ ثم يهاجمون دور العبادة لهذه الطائفة المخالفة، فيشعلون فيها النار، ويبعثون الخوف في هؤلاء إلى درجة تدفع إمرأة منهم إلى أن تلقي بنفسها من ارتفاع عشرة أمتار، أو أن يلقوا هم بها من هذا الارتفاع، كما روت بعض الصحف؟

اقرأ أيضاً: من سرق أنوار التسامح في المجتمع المصري؟

ويضيف: "الأمر يصل إلى درجة الهوس الحقيقي، وهو يحمل في طياته درجة لا يستهان بها من الغضب أو الحقد أو الكراهية، المستمدة في رأيي من هذا الشعور الذي وصفته في البداية، تلك الحاجة الماسة لدى المرء إلى الشعور بأنه ذو قيمة: "حاجة استبدت به إلى تأكيده أو خوف مستطير من أن يفقده".

مظاهر التعصب الديني

يؤكد المفكر المصري، بأن المتعصب يستمد شعوره بأنه ذو قيمة، من خلال الإمعان في تقليل قيمة الآخرين. والتجاؤه إلى ذلك هو التجاء اليائس إلى التعلق بآخر، كونه طوقاً للنجاة، ويمكن أن ينقذ به نفسه؛ إذ قد يبدو غريباً أن يكون المصدر الأساسي أو الوحيد لشعور المرء بأنه ذو قيمة ليس التدين نفسه، ولا رؤية الآخرين له وهو "يتدين"، بل مجرد انتسابه اسماً إلى دين يختلف عن دين بعض الناس الآخرين، مع أنّ مجرد انتسابه إلى هذا الدين لا يرجع إلى فضل خاص له هو شخصياً، أو إلى أي جهد أو عمل قام به، بل لقد ولد عليه لأن أباه كان كذلك.

يؤكد المفكر جلال أمين أن المتعصب يستمد شعوره بأنه ذو قيمة من خلال الإمعان في تقليل قيمة الآخرين

في كتابه "وصف مصر في نهاية القرن العشرين"، يقدم الدكتور جلال أمين، بلغة تميزت بمضامين جمالية ورؤى عميقة تجمع بين الوضوح والعمق، لوحة فنية تصف حال المجتمع المصري بين مختلف طبقاته وفئاته، وتعكس العلاقات الاجتماعية المباشرة، سواء فيما يتصل بعلاقة المواطن والحكومة، وعلاقة المسلمين والأقباط، بالإضافة إلى واقع الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام خلال مائة عام.

رحيل أمين يشكل في نظر، رئيس اتحاد كتاب مصر، الدكتور علاء عبدالهادي، خسارة فادحة للثقافة والفكر الاقتصادي المصري، فقد "كان أحد أهم رجاله ومفكريه، وبرحيله فقد الفكر العربي المعاصر قلماً آخر مهماً، اتسمت رسالته بالرؤية الاجتماعية الثاقبة، والبصيرة، واللغة التحليلية التي لا تخلو من عمق رغم بساطتها الظاهرة".

وأضاف رئيس اتحاد كتاب مصر في نعيه للمفكر الاقتصادي "كان رحمة الله عليه ممن انشغل بالتنوير وقضاياه الاقتصادية في بعدها الاجتماعي، متوجهاً بفكره إلى المواطن العربي وعموم المثقفين".

غلاف كتاب السيرة الذاتية للدكتور جلال أمين

وفي حديثه لـ "حفريات"، يشير الباحث والمفكر الاقتصادي إلهامي الميرغني، إلى أنّ الدكتور جلال أمين، "تميز بقدرته الفذة على الجمع بمهارة بين كونه أستاذاً للاقتصاد وربطه التحليل الاقتصادي بالتحليل الاجتماعي والسياسي والثقافي، دون وضع حدود بينهم، وفهم التأثيرات المباشرة والخفية، عبر تحليله للبنى الاجتماعية المختلفة، من منظور الاقتصاد وفلسفته، حتى يعتقد البعض أنه عالم اجتماع، أكثر من كونه عالم اقتصاد، وربما، يكون كتابه عن تطور نظريات التنمية الاقتصادية من أهم الكتابات التي كتبت في هذا المجال".

اقرأ أيضاً: في وداع ياسر المصري

ويضيف الميرغني أنّ أمين كان لديه ولع بالتاريخ، حتى إنه في أكثر من كتاب له، تعقب تاريخ التطور الاقتصادي والاجتماعي في مصر، وكانت رؤيته العلمية للتاريخ إضافة غنية ومؤثرة أثرت المكتبة العربية كما فعل في كتابه: "ماذا حدث للمصريين؟" والذي عرض خلاله تطور الاقتصاد والمجتمع خلال خمسين سنة. وكذلك كتابه "مصر والمصريون في عصر مبارك" الذي رصد فيه التطورات الاقتصادية والاجتماعية ما بين عامي 1981 – 2008.

الكاتب المصري، مدير تحرير جريدة "الشروق"، وعضو مجلس نقابة الصحافيين المصريين، محمد سعد عبد الحفيظ، يعتقد أنّ جلال أمين "كان فيلسوفاً أقرب منه إلى عالم اجتماع، وكان راصداً ومتابعاً جيداً لحركة المجتمع وطبقاته المختلفة، حيث استطاع تحديد المتغيرات التي طرأت على المجتمع وعوامل ذلك، فضلاً عن تحليله الدقيق للظواهر الاجتماعية".

اقرأ أيضاً: السينما المصرية ظلمت النساء وبشّرت بعالم ذكوري

وأردف في تصريحه لـ "حفريات": "عرفته قبل نحو 13 عاماً، تقريباً، وزرته في منزله بحي المعادي، لإجراء حوار صحفي، وكان من المفترض أن أسأل وهو يجيب؛ لكن تحول الأمر أن شرع هو في محاورتي وطرح بعض الأسئلة معي، فيما يتصل بأحوالي وواقع أسرتي، وكيف يفكر جيلي في المستقبل؟ ورؤيتي في نظام مبارك وسياساته، وموقفي من نظامي عبد الناصر والسادات، ثم بعد نحو ساعة من الحديث بيننا بدأ الحوار الذي زرته واستقبلني من أجله".

ويختتم عبد الحفيظ حديثه، بـأنّ أمين "كان عروبياً، وانضم إلى خلية بعثية في القاهرة، في بداياته، مع الراحل أحمد بهاء الدين، ما أدى إلى (كراهية) عبد الناصر لأمين، بيد أنه بكاه بشدة، عندما أعلن السادات زيارته للقدس، وراجع موقفه من عبد الناصر إبان توقيع معاهدة كامب ديفيد".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية