جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية.. لماذا انفضّ التحالف؟ ومتى وكيف بدأ الصدام؟

جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية.. لماذا انفضّ التحالف؟ ومتى وكيف بدأ الصدام؟


02/09/2021

منذ انطلاقة الحركات الدعوية الإسلامية في تركيا وانتشارها بشكل متصاعد خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كان الداعية فتح الله غولن ومن التفّ حوله من طلاب ومريدين ضمن ذات التيار الإسلامي الواسع الذي انبثقت عنه الأحزاب الإسلامية بقيادة نجم الدين أربكان. وبعد استقلال رجب طيب أردوغان ورفاقه عن قيادة نجم الدين أربكان وتأسيسهم حزب العدالة والتنمية عام 2001، كان غولن في طليعة الداعمين للحزب الجديد، إلا أنّ واقع الوصول إلى السلطة فرض مساراً جديداً عرف منعطفات حادّة في العلاقة بين الحزب والجماعة خلال العقدين التاليين.

لحظة الشراكة والوئام.. اتحاد الدعوي والسياسي

بعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، نشر فتح الله غولن مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" اعتبر فيه بأنّ "الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلماً"، وكان غولن في كتاباته حينها دائم الانتقاد لمساعي تحويل الإسلام إلى وسيلة للهيمنة، وكان يرى بدلاً من ذلك أنّ الإسلام هو دين اعتقاد،  وأخلاق، ومعاملة، وهو ما كان يظهر بمثابة نقد صريح من قبله لتيارات الإسلام السياسي في صيغها التقليدية. كذلك، كان غولن، في مرحلة مطلع الألفية الثالثة، من المتبنين والداعين الأوائل للحوار بين الأديان، وقد التقى البابا يوحنا بولس الثاني عام 1998، كما التقى بعدد من قيادات المجتمع اليهودي في مناسبات عدّة خلال تلك السنوات. وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)  نظّمت المؤسسات  التابعة لحركته مؤتمرات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة حول "الإسلام المعتدل" وأهمية الحوار بين الأديان، كل ذلك جعل غولن وجماعته التيار التركي الإسلامي الأقرب إلى رؤى وتطلعات الدول الغربيّة.

سارع غولن إلى دعم حزب أردوغان الجديد عند تأسيسه في العام 2001

ومنذ الانشقاق الذي قاده أردوغان وعبدالله غول عام 2001 عن تيار نجم الدين أربكان، وتشكيل  حزب العدالة والتنمية، سارع غولن إلى دعم الحزب الجديد، ما أكسب الحزب زخماً ومنحه تأييداً وقاعدة شعبيّة واسعة. كما قام بتسخير علاقاته الدولية لصالح "العدالة والتنمية"، إذ  ساهمت جهود غولن، والمناخ الدولي الداعم لـ "الإسلام المعتدل"، في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الانتصار الذي حققه الحزب بالانتخابات البرلمانية التركيّة عام 2002، وبخاصّة أن غولن كان يعتبر عند الأمريكيين والأوربيين أنموذجاً للإسلام المعتدل، وحركة دعوية تتوافق إلى حد بعيد مع التقاليد والقيم الديمقراطية الغربية، ولنكون بذلك الخيار الأفضل لديهم للحكم في تركيا.

بوادر الخلاف.. والإرهاصات الأولى

مع الوصول إلى السلطة بدأ حزب العدالة والتنمية يأخذ مسلك أحزاب الإسلام السياسي مبتعداً بذلك أكثر فأكثر عن المسار الدعوي الذي ظل مقترناً بغولن وحركته. وكان غولن في ارتباطه بحزب العدالة والتنمية مدركاً لهذا الانفصال بين الجماعة والحزب إلا أنه كان يجد بأنّ العلاقة يمكن أن تكون في شكل تمثيله وحركته المرجعية الدينية والأبوة الروحية للحزب.

اقرأ أيضاً: أردوغان يهدد أعضاء منظمة "غولن"... ما علاقة قيرغيزستان؟

وخلال سنوات التحالف، التي استمرت منذ العام 2001 وحتى العام 2009، استفاد العدالة والتنمية من مؤسسات حركة الخدمة الإعلامية والاقتصادية والتعليمية، ومن قاعدة المناصرين للحركة، التي كانت في حينه بطليعة المصوتين للحزب في مختلف الاستحقاقات الحزبية. وفي مقابل ذلك، فإنّ علاقة التحالف مع الحزب فتحت أمام الجماعة أبواب الانتساب للمؤسسات الأمنية َالعسكرية والقضائية، كما ومنحت  مؤسسات الحركة الاقتصادية، والخيرة، والتعليمية، حرية التحرك والعمل.

عند تشكيل  حزب العدالة والتنمية عام 2001، سارع غولن إلى دعم الحزب الجديد، ما أكسب الحزب زخماً ومنحه تأييداً وقاعدة شعبيّة واسعة في حينه

إلا أنّ توسّع حركة الخدمة على نحوٍ متسارع وتمكنها من التغلغل في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة الحيوية بدأ يسبب القلق والخشية المتزايدة لدى قيادات حزب العدالة والتنمية، إذ لم تعد جماعة غولن دعوية فقط مع اكتسابها المزيد من القوة والنفوذ.

وجاءت أولى إرهاصات الخلاف بين الحزب والجماعة في العام 2009، مع شروع حكومة العدالة والتنمية في حينه بإجراء مفاوضات سريّة مع حزب العمال الكردستاني في العاصمة النرويجية أوسلو. وكانت المفاجأة في حينه أنه قد تم تسريب تسجيلات صوتية للمفاوضات إلى الإعلام التركي، وحينها توجه الاتهام من قبل أردوغان وقيادات حزب العدالة والتنمية إلى جماعة غولن بالوقوف وراء التسريبات، وبالتالي بات جلياً المدى الذي بلغه تغلغلها في المؤسسة الأمنية.

أعلن فتح الله غولن دعمه احتجاجات منتزه غيزي في عام 2013 الموجه ضد حكومة العدالة والتنمية

ومن ثم جاءت حادثة سفينة "مافي مرمرة" في العام 2010، والتي قتل عدد من أفراد طاقمها على أيدي قوات خفر السواحل الإسرائيلية قبالة سواحل قطاع غزة، والتي أعقبتها تصريحات اعتبرت صادمة لفتح الله غولن، وذلك في حديث أدلى به لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، قال فيه بأنّ التحرّك دون موافقة إسرائيل كان خاطئاً، واعتبر بأنّ التصعيد مع إسرائيل لن يسفر عن نتائج محمودة. واعتبرت هذه التصريحات في حينه بمثابة توجه صريح للصدام مع حكومة حزب العدالة والتنمية ومواقفها وسياساتها، وبدأ الصراع بذلك بين الجماعة والحزب يظهر إلى العلن أكثر فأكثر.

انفضاض التحالف.. وأزمة "غيزي"

في أيار (مايو) 2013 وقعت الاحتجاجات على إزالة الأشجار من منتزه غيزي في اسطنبول، وبعد مواجهتها بالقمع، سرعان ما تحوّلت إلى أعمال عنف واسعة النطاق، راح ضحيتها إحدى عشر شخصاً. وفي أعقاب ذلك، برز موقف جماعة غولن عبر حملة التنديد الواسعة التي قامت بها وسائل الإعلام التابعة لها.

وقد ازداد انزعاج أعضاء حركة غولن مع انتشار ادعاءات تفيد بأن رجال الأمن الذين استخدموا العنف خلال الأحداث ينتمون إلى الحركة. فكان أن اتجه المنتمين للحركة لتكثيف استهداف الحكومة عقب انتشار تلك المزاعم، محاولين تكذيب المعلومات التي تشير إلى أن أعضاء الجماعة قد أسسوا كياناً وتكتلاً داخل أجهزة الأمن.

توسّع حركة الخدمة على نحوٍ متسارع وتمكنها من التغلغل في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة الحيوية سبب القلق والخشية المتزايدة لدى قيادات حزب العدالة والتنمية

وكانت احتجاجات متنزه غيزي قد بدأت كمظاهرات لمناصري البيئة إلا إنها تطوّرت سريعاً وأصبحت مناوئة لمجمل سياسات حكومة العدالة والتنمية، وتبنّت العداء لرئيسها أردوغان بشكل مباشر. وقد أعلن فتح الله غولن دعمه صراحةً للمشاركين في احتجاجات منتزه غيزي، وذلك في تصريحات له يومي السادس والرابع والعشرين من حزيران (يونيو) 2013، إذ استهدف بشكل صريح تصريحات أردوغان بخصوص الأحداث، وانتقده تحديداً بسبب إطلاق أوصاف مثل "قلة" و"قطاع طرق" على المتظاهرين، واعتبرت التصريحات بأنها معادية لأردوغان.

المزيد من التصعيد.. وأزمة إغلاق مراكز الدروس الخصوصية

في أعقاب التصعيد الذي شهدته أحداث منتزه غيزي، بدأ حزب العدالة والتنمية بالاتجاه نحو التصعيد مع جماعة غولن، وكانت الخطوة المتخذة هي الاتجاه نحو إغلاق مراكز الدروس الخصوصيّة، وهي المراكز التي كانت تعتمد عليها الجماعة بشكل كبير لتوفير الموارد المادية والبشرية لها.

كان بلال أردوغان، نجل أردوغان، من بين المتهمين في شبهات الفساد المثارة عام 2013

جاءت هذه الخطوة من قبل الحكومة بحجة إصلاح النظام التعليمي. حيث تم إعداد حزمة تعليمية جديدة تتضمن دورات لدعم الطلاب بدلاً من تلك المراكز. واعتبرت الحكومة تلك المراكز عبئاً على النظام التعليمي. وكان أعضاء جماعة غولن قد أسسوا سلسلة من مراكز الدروس الخصوصية منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين، واستطاعوا الوصول من خلالها إلى تجنيد عدد كبير من الطلاب، بفضل تلك المراكز والمدارس التي افتتحوها.

اقرأ أيضاً: بعد أعوام من محاربتها.. هل تمكنت السلطات التركية من القضاء على حركة غولن؟

ومباشرةً بعد تقديم المقترحات من قبل الحكومة بخصوص المراكز، اعتبرت وسائل الإعلام التابعة للجماعة بأنّ هذه الخطوة هي بمثابة ضربة كبيرة للتعليم، وبأنّ السبب الرئيسي وراءها هو القضاء على جماعة فتح الله غولن. وبالتزامن مع ذلك، عارضت عدة أسماء من أحزاب المعارضة وحتى من داخل حزب العدالة والتنمية، من الشخصيات المقربة من أعضاء جماعة غولن، إجراءات إغلاق مراكز الدروس الخصوصية، واستقال عدة أعضاء محسوبين على الجماعة من حزب العدالة والتنمية.

لحظة الصدام.. مخطط انقلابي بأدوات قضائية

في كانون الأول (ديسمبر) 2013، أطلقت سلسلة من التحقيقات من قبل جهاز القضاء في ظلّ اتهامات لمسؤولين بالفساد والرشاوى، وجرى على إثرها استدعاء مسؤولين بما في ذلك أسماء بارزة في حزب العدالة والتنمية، شملت بلال أردوغان، ابن رئيس الوزراء في حينه، رجب طيب أردوغان. ما أظهر حينها بأنّ أردوغان كان هو الهدف الأساسي والنهائي من هذه التحقيقات، وبأنّ هذه التحقيقات هي ذات طابع "انقلابي".

وفي يوم الخامس والعشرين من كانون الاول (ديسمبر)، أصدر المدعي الخاص، معمر آكاش، قراراً بإلقاء القبض على (96) شخصاً، من المسؤولين ورجال أعمال، وبالتحديد ممن كانت لهم صلة بعدد من مشاريع البنى التحتية الكبرى في اسطنبول. إلا أنّ هذه القرارات لم يتم تنفيذها من قبل عناصر جهاز الأمن الذين كانت الحكومة قد بادرت لتعيينهم في حينه مكان العناصر الذين اعتبروا بأنهم من المنتمين إلى جماعة غولن.

اعتبرت حكومة العدالة والتنمية التحقيقات القضائيّة نهاية العام 2013 بمثابة محاولة انقلابيّة من قبل جماعة غولن

وبالتزامن مع إطلاق التحقيقات، كانت عمليات التنصّت قد أطلقت، وطالت رئيس الوزراء أردوغان وعدداً من وزراء حكومته. وقد أدرك حزب العدالة والتنمية في حينه أنّ القضية أكبر من مجرد تحقيقات وإنما هو تغلغل واسع من قبل جماعة غولن في أجهزة الدولة الحساسة، بما في ذلك القضاء والأمن، ومن ثم اعتبروا بأنّ الجماعة تستهدفهم بشكل مباشر من خلال إطلاق تحقيقات عن شبهات الفساد، وبحيث تهدف إلى الانقلاب واسقاط حكومة العدالة والتنمية، وهو ما تم مواجهته بقرارات وخطوات استباقية. إذ، ولمواجهة تكتل الجماعة داخل جهاز القضاء، قامت الحكومة بتغيير مناصب (166) قاضياً ومدعياً، وكذلك أطلقت حملة داخل جهاز الأمن عزلت خلالها عناصر منتمين إلى جماعة فتح الله كولن، كما جرى تغيير أماكن وظائف أكثر من ألف عنصر أمن ممن ينتسبون إلى الجماعة، وذلك بهدف ضرب وتشتيت أيّ تكتل لهم.

اعتبرت التحقيقات القضائيّة التي دبّرتها جماعة غولن نهاية العام 2013 بمثابة محاولة انقلابيّة، وبعد ذلك بدأت السلطات التركية تُطلق على الجماعة مسمى "الكيان الموازي"، معتبرةً بأنها باتت تمثل "دولة داخل الدولة"، وبدأت وتيرة الهجوم على الجماعة تتصاعد، وفي عام 2015 اعتبرت السلطات التركية الجماعة بمثابة "منظمة إرهابيّة".

اقرأ أيضاً: قصة الإسلاميين في تركيا.. أردوغان في مواجهة غولن

وخلال الأعوام (2014-2016) توسّعت السُلُطات في حملاتها لاستهداف وإغلاق الوسائل الإعلامية والمؤسسات التابعة لجماعة غولن. كل ذلك جاء تحت شعار المحاربة والتصدي لـ "الكيان الموازي". وبحلول آذار (مارس) 2016 كان قد صدر حكم قضائي بتعيين أوصياء على جريدة "زمان"، و"وكالة جيهان للأنباء"، اللتين تعتبران أهم مؤسستين إعلاميتين للجماعة. تزامنت هذه الإجراءات مع إدلاء عدة دول غربية بتصريحات منددة بهذه الخطوات المتخذة من قبل السلطات التركية، واعتبارها تهديداً صريحاً للديمقراطية وحرية التعبير في البلاد، وبدأت جماعة غولن تحظى بدعم متزايد في الدول الأوروبية.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره أردوغان فتح الله غولن؟

وعقب محاولة الانقلاب في الخامس عشر من تموز (يوليو) 2016، والتي اتهمت الجماعة بتدبيرها والوقوف وراءها، انطلقت عملية التطهير الشاملة بحق أعضاء ومؤسسات الجماعة، وأغلقت سائر المؤسسات والهيئات ووسائل الإعلام التابعة لها من خلال مراسيم خاصّة بذلك. وخلال السنوات اللاحقة، وبينما تمكنت عمليات التطهير من القضاء على "الكيان الموازي" داخل تركيا، إلا أنّ مواقف الدول الغربية، التي وفرت الملاذ للجماعة، حالت دون ذلك على المستوى الخارجي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية