جهاد الطلب.. هل أصّل الفقهاء لصناعة الأعداء؟

جهاد الطلب.. هل أصّل الفقهاء لصناعة الأعداء؟


31/07/2019

يقرر الفقهاء أنّ الجهاد نوعان؛ جهاد الدفع وجهاد الطلب، والأول هو ما يحصل نتيجة تعرض المسلمين في ديارهم للحرب من قبل غيرهم، وعليه إجماع من أهل العلم والفقه والتأصيل، أما الثاني؛ جهاد الطلب، فأن يطلب المسلمون غيرهم في دارهم، وعليه أيضاً إجماع من جماهير العلماء، إلا قليلاً.

اقرأ أيضاً: هل يمكن تحويل جهادي إلى مكافح للتطرف

ومما استوقفني وأثار الكثير من الأسئلة؛ كيف يكون هذا النوع من الجهاد متوازناً في المعنى مع قول الله تعالى "لا إكراه في الدين"؟ فيرى الذين يقولون بوجوبه على الكفاية أنّه "ليس على سبيل الانتقام من غير المسلمين أو العبث بالأرواح والأنفس والتعطش للقتل والدم"، وليس للإكراه على الدخول في الدين، إنما يبررون ذلك لأسباب ومقاصد سامية، هي الدعوة بالحسنى والموعظة الحسنة.

ثمة أفكار تصنع الأعداء وتشعل الحروب ينبغي مواجة بعضها بالرفض وبعضها الآخر بإعادة التفسير والتأويل

والسؤال هنا، متى كان القتل موعظة حسنة؟ ومتى كانت الحرب دعوة بالحسنى؟ ألم يأخذ المسلمون على الغرب قتالهم لنا في العراق مثلاً بحجة الحماية؟ فتلك أيضاً من المقاصد السامية، هذه كتلك، فالحرب هي الحرب، لا شأن لها بالموعظة الحسنة، حتى وإن كان التبرير أن أول اللقاء مع غير المسلمين ليس قتلاً وإنما دعوتهم إلى الإسلام، وهذا ما لا يقره الشرع ولا الشريعة.
ذاك تناقض واضح في الفهم والتأويل والتبرير لجهاد الطلب، على الأقل لدى بعض الفقهاء الذين يرون فيه حالة تاريخية كانت لها مقاصدها في بداية تكوين الدولة ونشوء الدعوة الإسلامية، أما اليوم فيرى بعض الفقهاء أنّ الفقه لا يجب أن يكون معزولاً عن زمانه، ولا يجب قراءة نصوصه بعيداً عن واقع الحال.

اقرأ أيضاً: محنة ابن حنبل.. مع "السَّلفيات الجهادية"

ذهب مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، المنعقد في دورته الثانية والعشرين بدولة الكويت، في آذار (مارس) 2015، إلى محاولة إعادة تعريف جهاد الطلب بشكل أكثر حضارية؛ حيث تم تعريفه في توصيات الدورة المذكورة بأنّه "الجهاد الذي يهدف إلى حماية حرية نشر الدعوة وإزالة العوائق أمامها، كما يهدف إلى الدفاع عن المستضعفين والمضطهدين بالأرض وفق ضوابط وشروط حددها الفقهاء تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للمفسدة".
هذا تعريف مرتبط أساساً بمدى الحرية التي يحظى بها المسلمون في بلاد غير المسلمين؛ فالمساجد في أوروبا وأمريكا تملأ المدن، والمراكز الإسلامية متاحة، والدعاة ينتشرون في عرض البلاد وطولها لتبليغ الإسلام ونشر أفكاره والتعريف بمقاصده وقيمه وتسامحه.

اقرأ أيضاً: العراق يسلم تركيا عشرات من أطفال الجهاديين

يذهب المنقول الفقهي، من المالكية إلى الشافعية، إلى أبعد من ذلك، فيقرر بعض العلماء أنّ القتال المسمّى بـ "جهاد الطلب"، يجب أن يتم كل عام مرة، وهذا من منقول "القرطبي" بقوله: "وقسمٌ ثان من واجب الجهاد؛ فرض أيضاً على الإمام، إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه أو يُخرج من يثق به، ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم ويَكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام، أو يعطوا الجزية عن يد"، وأما منقول الشافعية فقال الشيرازي: "وأقل ما يجزئ في كل سنةٍ مرة، لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتل، فكذلك القتل ولأن في تعطيله في أكثر من سنة يطمع العدو في المسلمين".

اقرأ أيضاً: تقرير أمريكي يحذّر من نوع جديد من الجهاد..

أليس في هذا إذا ما دعا إليه البعض في هذا العصر استعداء العالم والأمم على الإسلام والمسلمين؟ أليس هذا طريق نحو صناعة الأعداء، وتثوير العالم تجاه الإسلام والمسلمين؟ لقد مكثنا قروناً وما نزال لا نطمئن لغيرنا، وخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الشبهات، وأصبحت فيه الحروب أقصر الطرق إلى تحقيق المصالح، فلدى كل طرف حجة مقنعة لنفسه بأنّ الآخر عدو لا يؤتمن، وأنّ القتال والحرب وسيلة مبررة ومشروعة وضرورة.

ثمة أفكار تصنع الأعداء، وتشعل الفتن والحروب، ينبغي مواجهة بعضها بالرفض والإدانة، وبعضها الآخر بإعادة التفسير والتأويل، وبعضها بإعادة إنتاجها بصيغة مختلفة؛ فالمسلمون يستطيعون أن يعلنوا الحرب متى شاؤوا والغرب كذلك، ولكلٍّ حجّته!

اقرأ أيضاً: الجهاديات.. هكذا تغير دور المرأة في صفوف التنظيمات المتطرفة
لدم "الكفار" حضور كبير في صفحات التراث، فقد انشغل به الفقهاء في مصنفاتهم أيما انشغال، بحثاً في استحلاله ونفي العصمة عنه، ونقاشاً في قتله وقتاله، ومتى يجب استحلال دمهم ومتى لا يجوز، والذي عليه الكثيرون من العلماء أنّ "كل من لم يحارب المسلمين ولم يمانعهم فإنّه لا يباح دمه ولا قتاله، وهذا ما أشار إليه ابن تيمية في قوله: "لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله"، فمن يمنع المسلمين اليوم من أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، في مساجد أوروبا وأمريكا وأستراليا، ومراكزها الإسلامية المنتشرة في كبرى مدنها وعواصمها؟

من يمنع المسلمين اليوم من أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في مساجد أوروبا وأمريكا وأستراليا؟

الدولة الوحيدة التي تمنع الدعوة وتحجر على المسلمين هي إيران، فلا مساجد ولا مراكز ولا دعاة، ومع ذلك نجد من لا يعتبرها عدواً ولا يرى في ممارساتها ضد دين السنّة ودعوتهم دافعاً لحرب ولا لقتال.
أخيراً، هذه المقالة ليست فتوى في إبطال جهاد الطلب، وإنما هي دعوة لإعادة قراءته برؤية جديدة لا تشعل الحروب ولا تصنع الحقد ولا الكراهية ولا العداوة.
في عالمنا اليوم الجميع يجهد في صناعة الأعداء، وكما قال الكاتب الإيطالي الشهير "أمبرتو إيكو" في "اختراع العدو"، "إنّ وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب؛ وإنما، أيضاً، ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت، أثناء محاولتنا تخطيه، قيمتنا"، على الفقه والفقهاء أن لا ينحازوا لقاعدة السياسة والسياسيين في الحاجة المستمرة للعدو، وأن يبنوا على ما في التراث الفقهي من قيم وأفكار متسامحة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية