جوليان جرين.. القلب بيت المسرح

جوليان جرين.. القلب بيت المسرح


06/06/2020

يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في تقديمه لمسرحية «الجنوب» للكاتب الفرنسي جوليان جرين: إن هذا الكاتب متوحد، لا يتابع التيارات اليومية في عصره، ولا يشارك في أحداثه العامة، ولو كان إليه أمر اختيار زمن مولده، لاختار أن يعيش في أعماق العصر الوسيط، ففيه إيمانه ونزعاته الميتافيزيقية ولمحاته الرمزية، واستشعار الأسرار، والرغبة في التنبؤات بالمجهول والتعبير عما يتجاوز القدرة على التعبير، حتى إنه قال عن نفسه إنه غلط في الميلاد بهذا القرن، كما يغلط المرء في طابق البيت الذي يسكن فيه.

جوليان جرين أمريكي الأبوين؛ لكنه ولد في باريس في 16 سبتمبر/أيلول سنة 1900، وفيها درس حتى حصل على البكالوريا في سنة 1917، واشتغل بالتمريض متطوعاً في الجبهتين الفرنسية والإيطالية (خدمة الميدان الأمريكية والصليب الأحمر)، انخرط في سلك الجيش الفرنسي، ولم يسافر إلى وطنه إلا في سنة 1919 لأول مرة؛ حيث درس في جامعة فرجينيا، وقام بتدريس اللغة الفرنسية ثم عاد إلى فرنسا، وفيما بعد استقر به المقام في أمريكا عام 1940.

كانت الأم كثيراً ما تحدث ابنها عن حرب الانفصال، التي وقعت بين الولايات الشمالية والجنوبية، بين سنتي 1860 و1865؛ بسبب الرق، فالشمال يريد إلغاءه، والجنوب يريد الإبقاء عليه، وكان انتخاب لنكولن سنة 1860، إيذاناً بهذه الحرب التي استمرت أربع سنوات، وانتهت بانتصار الشمال، ثم مصرع لنكولن، وسيكون لهذه الذكرى (انفصال الجنوب) أثرها البالغ في نفس جوليان جرين، وهذا الأثر ناجم عن شعور بأنه ينتسب إلى شعب مقهور في الجنوب، ما جعل هذه الحرب «مصدر حزن لا ينفد وهو حزن موروث وقد يقال مستعار؛ لكنه كان ذا أثر في كيفية وجودي» كما يقول في يومياته.

تنازعت جرين الثقافتان الفرنسية والأمريكية، الأولى لأنه شب عليها، والثانية لأن أصله أمريكي، كما تنازعته البروتستينية مذهب أجداده، والكاثوليكية مذهب فرنسا السائد، وعانى التوتر بين المذهبين المتصارعين في نفسه؛ لكنه عاد فيما بعد إلى الكاثوليكية، وكان معجباً بأندريه جيد وقامت بينهما صداقة، استمرت أكثر من عشرين سنة، وترددت أصداؤها في «يوميات» كليهما، كما أعجب بقصص فوكنر، وقد ألف 12 رواية، أشخاصها نماذج عابرة لظروف الزمان والمكان، إنهم يمثلون الوجود المجرد ويستندون إلى القوى المنتصرة، وتعتلج في نفوسهم معاني اليأس والاختناق والشعور بعبء الوجود.

لكن ليس معنى هذا أن جرين غارق في الخيال، إنه يصف التفاصيل بدقة بالغة، ويجعلنا نعيش في الوسط الذي يحيا فيه أشخاصه، واللوحات التي يقدمها عن الأماكن في المدينة أو الريف تكاد في وقتها وواقعيتها تنافس أشهر لوحات بلزاك في قصصه العظيمة، وكل شخص في رواياته يتميز بخصائص فيزيائية واضحة، ونبرة صوت خاصة، ويشيع فيها جميعاً تأثير الأحلام والقوى الخفية ذات النداءات الرهيبة التي تنبئ عن المصير وترشد السلوك، وهؤلاء الأشخاص في الأغلب هم متمردون، لا يحسنون الاتصال بالناس؛ لأن جرين يؤمن بأن «الوجود الإنساني منفصل عن باقي الإنسانية بحاجز لا يزول أبداً، وتلك هي مأساة كل منا، وما نفكر فيه بعمق لا يكاد يكون من الممكن إيصاله للغير».

طرق جرين أبواب المسرح متأخراً فقد ألف أولى مسرحياته «الجنوب» في 6 مارس/آذار سنة 1953 وهو في سن الثالثة والخمسين، وكانت نظرته المسرحية أرسطية خالصة، وقد وضع الغاية التي قدرها أرسطو من المأساة رمزاً لمسرحيته الأولى، وهي «التطهر من وجدان خطر بواسطة تحرر عنيف، ولهذا كان يحب أن يهدف المسرح إلى المزيد من الانفعال المنبعث عن القلب لا عن العقل»، وهو حين يؤلف مسرحية، فإنه لا يعلم مقدماً موضوعها الحقيقي، ولا تصاعد الأحداث فيها؛ بل يأتي ذلك مع التأليف، فقد قال في يومياته عن مسرحية «الجنوب»: «لقد كتبت هذه المسرحية بطريقة غريبة؛ إذ اكتشفت موضوعها الحقيقي عند نهايتها، كما حدث لي مراراً مع كثير من مؤلفاتي الأخرى، إن أشخاص رواياتي كثيراً ما تتجاوزني ذلك إنهم ماكرون».

عن "الخليج" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية