جيلنا الذي يرقب النهايات ولا يملك سوى التأمل

جيلنا الذي يرقب النهايات ولا يملك سوى التأمل


05/12/2017

مختارات حفريات

جيلنا الذي يرقب النهايات ولا يملك سوى التأمل

قد يكون جيلنا الحاضر شاهداً على نهايات كثيرة في المؤسسات والموارد والأعمال والمدن والإقامة والتخطيط والتفكير، ففي عصر المعرفة والمعلومات والشبكية لم نعد ننتمي أو قادرين على الانتماء إلى هذه المدن والمؤسسات، ومن المؤكد أن الجيل المقبل سوف يقضي عليها إن بقيت. فهذه المدن والأسواق والأعمال والمصالح القائمة، والتي أنشأتها ضرورات سياسية للهيمنة والتنظيم؛ لم تعد تصلح للنخب المهيمنة، ولم تكن ملائمة للمجتمعات في يوم من الأيام، فهذا الثبات والتماسك في تخطيط المدن والمباني والمؤسسات يعكسان رغبة في عدم التغيير في ظل تقنية وموارد تحتم الزوال في كل شيء، ولم يعد ممكناً سوى التفكير في أعمال ومؤسسات ومدن قابلة للتحول والتغير والاختفاء والظهور في سرعة ومن دون كلفة، والحال أن المدن كانت في منشئها في عصور الزراعة وما حولها من دفاع وتجارة سريعة الحركة والتغير والارتحال، تكاد تكون بلا حدود، ولعلها تلائم الشبكية الصاعدة أكثر من المدن والمؤسسات المعاصرة، فقد كانت المدن تنشئ مراكز حضرية جديدة أو توسع من حدودها، وقد تغير موقعها وتنتقل إلى موقع جديد، وكان نسقها العام عبارة عن عدد وفير من المدن الصغيرة والقرى التابعة لها على اتصال لا ينقطع بالمدن المجاورة والموزعة في أرجاء الإقليم على نطاق واسع، وكان يؤخذ في الاعتبار حاجة الناس وهم يسيرون على أقدامهم أو مع الدواب، وكان عدد السكان يتراوح بين بضعة آلاف وأربعين ألفاً، وكان من الخارج عن المألوف أن يتجاوز عدد سكان المدينة مئة ألف.
لم تكن العواصم الكبرى والمدن الهائلة سوى تعبير عن نظام الرأسمالية التجارية ونظام السلطة السياسية المطلقة والمركزية، ولم تكن مصلحة في ذلك سوى للقلة المهيمنة، لكن أدوات التنظيم والمركزية تتلاشى اليوم، فالمؤسسات الإعلامية والتعليمية والتجارية والأسواق وعمليات البيع والشراء والعمل التي أخضعت الناس إلى عمليات تنظيم واتجاهات في العمل والإقامة والسلوك والتفكير تتحول هي إلى شبكات بلا مركز ولا سيطرة، وفي انسحاب المجموعات والمؤسسات المهيمنة على الموارد والمجتمعات من التزاماتها التنظيمية والتمويلية معتقدة أنها تقلل التكاليف والجهود تترك الأفراد والجماعات ليعيدوا تشكيل أنفسهم وأعمالهم ومواردهم بعيداً عنها، هذه الفوضى وإن خسر الناس في ظلها أعمالهم ومدنهم وحياتهم هي أيضاً تخفي النخب والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية.
كانت الحضارة الصناعية المعاصرة تحولاً من الشمول إلى الانتظام ومن الخضوع للدين إلى الخضوع للقانون والسلطة السياسية، وفي ذلك أنشئت المدن وأنظمة العمل والتمويل لمصلحة التحالف الجديد من السياسيين والصناعيين والبنوك، أو كما يقول لويس ممفورد أن المختصّين بهندسة الطرق والقائمين على المدن وقعوا تحت تأثير الإقبال الشديد على استعمال السيارة الخاصة، وشعروا بأن الواجب يقتضيهم معاونة شركات صناعات السيارات على الازدهار حتى لو كانت النتيجة هي الفوضى وتعطيل جميع أساليب النقل المختلفة اللازمة لنظام صالح، وقصروا وسائلنا على السيارة الخاصة في حين أنهم كدسوا في المدن سكاناً لا تستطيع السيارات الخاصة أن تفي بخدماتهم ما لم تدبر المدن ذاتها لتهيئة المجال اللازم لحركة السيارات وتخزينها. وتحولت الضواحي من مبان قائمة في وسط الحدائق إلى مبان قائمة في ساحات مواقف السيارات. بذلك، خسرت الضواحي ميزتها الوحيدة، إذ إنها نشأت حول المدن أو قريباً منها بدافع اعتزال الناس مثل راهب والعيش مثل أمير مع القدرة على التمتع بمزايا المدينة.
واليوم وقد فقدت النخب المهيمنة القدرة (والرغبة أيضاً) على الاحتفاظ بالمدن والأسواق والمؤسسات وتظن أن في مقدورها أن تخرج من المجتمعات، لكن ذلك لن يكون سوى لعب في الوقت الضائع، لأن الأمم والمجتمعات في بحثها عن الفرص الجديدة تتحول إلى كائنات وحضارة معلوماتية، تنشئ عالمها وأسواقها ومواردها و... قادتها ونخبها أيضاً.

إبراهيم غرايبة - عن صحيفة "الحياة"

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية