حديث ولي العهد السعودي: منظومة قوانين جديدة في الأحوال الشخصية

حديث ولي العهد السعودي: منظومة قوانين جديدة في الأحوال الشخصية


04/05/2021

خلق حديث ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، حول عدم الأخذ بأحاديث الآحاد جدلاً كبيراً في العالم العربي والإسلامي، ما بين مُحبّذ ورافض، أو مستغلّ لهذا اللقاء سياسياً في مهاجمة المملكة، لكنّ ما قاله ولي العهد ليس بجديد فكرياً، إنّما بجديد على السلطة في المنطقة.

وربما يثار جدل حول الإصلاح الديني عن طريق السلطة، لكنّ قراءة في تاريخ سيادة التيارات الدينية الإسلامية تكشف أنّ أيّ تيار لم يسُد إلا بوجود سلطة تتبناه، وخصوصاً تيار أهل الحديث الذي ساد مع الانقلاب المتوكلي على الإرث العباسي المعتزلي، بل من الواجب على السلطة أن تحمي الناس من وراثة تيار ما متطرف، فمن المعلوم أنّ الآية القرآنية القائلة: {حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} لا تنحصر بزمان ما، فهي حكمة اجتماعية موجودة طالما وُجد المجتمع الإنساني، ورغم نزولها للحديث عن وارثي الشرك إلا أنّها تصف حال وارثي التطرف في عالمنا الإسلامي، ولهذا على السلطة، كما تنقذ الناس من وراثة الجهل الاجتماعي، أن تنقذهم من وراثة التطرف باسم الإسلام.

التنمية والدين

لم يأتِ طرح ولي العهد السعودي حول التجديد الديني من فراغ أو رفاهية، بل جاء ضمن رؤية متكاملة للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما طرحها في رؤية (2030)، إلى جانب أنّه، كشخص مؤمن بهذه الرؤية، وبضرورة الإصلاح، فهو من جيل جديد بتطلعات ورؤى مختلفة عن الحياة في المملكة.

من لقاء الأمير محمد بن سلمان

ومن هنا انصبّ اهتمامه بالإصلاح الديني على الدوائر التي يتقاطع فيها الدين مع المجتمع، في بلد هيمنت فيه رؤية دينية سلفية على التشريع لعقود، وتعضدت كردّ فعل على صعود الإسلام السياسي الشيعي في إيران في ثمانينيات القرن الماضي، بما جلبه على المنطقة ككل من صعود للإسلام السياسي والتطرف باسم الدين، والذي دعمته سياسة غربية حصرت المجتمعات التي تدين بالإسلام والناطقة بالعربية في أيديولوجية دينية لتوظيفها في صراعها مع العدو الشيوعي.

ويعدّ الأمير محمد أحد المتفاعلين مع ما شهدته المنطقة منذ عام 2011 من صراع بين الدولة الوطنية والرؤية الأممية للإسلام السياسي، وبيئتها الحاضنة من التيارات الفكرية السلفية، التي يخرج منها التطرف والإرهاب بعد تبني الطموحات السياسية.

يأتي حديث ولي العهد السعودي تمهيداً لكتابة منظومة قوانين جديدة في الأحوال الشخصية والعقوبات، ضمن خطوات تهيئة المملكة تشريعياً لتواكب وتخدم الأهداف المرجوة اقتصادياً واجتماعياً.

وتتسع رؤيته للتنمية إلى تحوّل المجتمع من نمط تقليدي تهيمن عليه فئة تحافظ على الركود الاجتماعي باسم الدين، إلى مجتمع منفتح خلاق جذاب للحياة البشرية الحديثة، فمن غير المعقول أن تتحدث المملكة عن تمكين المرأة في سوق العمل بينما يُفرض عليها باسم الدين مدونة من السلوك، تعيقها عن الخروج والسفر وهي متطلبات أولية وحقّ إنساني.

ووجد الأمير وفريقه الإصلاحي وسيلة لإدارة هذا التحوّل من داخل رحابة الإسلام، فتاريخ التدين الإسلامي حافل بنماذج دينية وفكرية واسعة، داخل البيت السنّي، وما حدث من سيادة نموذج واحد سواء "الوهابية"، أو الفكر السلفي في أيّ مكان، لم يكن سوى اختيار أو تماهٍ من السلطة في سياق تاريخي مغاير.

ثنائية الفرد والمجتمع

وفي لقائه الذي امتدّ لساعة ونصف الساعة على قناة "السعودية" مع الإعلامي السعودي، عبد الله المديفر، تناول ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قضايا الإصلاح الاقتصادي والحوكمة والإسكان والسياسة الخارجية والعلاقات مع إيران، وغيرها، وتحدث عن مفهوم "الاعتدال" في الدين الذي يعدّ أحد ركائز الرؤى المتكاملة للمملكة.

الترفيه في المملكة كعامل فاعل في الاقتصاد والتنمية الاجتماعية

وتتلخص رؤيته عن دور الدولة في إقرار رؤية سلوكية باسم الدين على المجتمع في شقّين؛ الأول تحديد دور الدولة في حياة الأفراد، عبر الفصل بين ما هو بين الفرد والله، وما يتدخل فيه المجتمع في هذه العلاقة، والثاني حصر دور السلطة في تنظيم المجتمع باسم الدين بما يحقق مصالح المجتمع الدنيوية وليس الأخروية.

وطرح ولي العهد مثالاً شائكاً، وهي قضية "الزنا"، من خلال النصوص الواضحة عنها، وتطبيق النبي محمدﷺلهذه النصوص، فالنصوص الدينية تحرّم الزنا، كمبدأ للفرد المسلم، لكنّ كتطبيق في المجتمع؛ نجد من خلال سيرة النبي فهماً أوسع لهذه القضية، يؤكد على مساحة التوبة بين الفرد والله، وكان لافتاً تأكيد الأمير محمد على رفض المسارعة في عقاب الناس باسم الله.

اقرأ أيضاً: في مقابلة مع محمد بن سلمان: عرض سعودي جديد... كيف ستتعامل معه إيران؟

وبربط عناصر رؤية المملكة بالإصلاح الديني، يضع الأمير عدة مسائل مستجدة على الواقع، منها مراعاة حقّ الأجنبي، سواء كان سائحاً أم موظفاً أم مستثمراً، في قوانين لها منطق يضمن حقّه في التقاضي العادل، وكذلك حقوق الفرد المسلم في تقاضي عادل، وألا تصبح حياة الإنسان خاضعة لأهواء البشر باسم الدين.

أحاديث الآحاد

وتنبع مسألة أحاديث الآحاد من قضية أكبر وهي تغوّل الحديث على النصّ القرآني؛ إذ صار الحديث هو المتحكّم في نموذج التدين الإسلامي السائد، وتكشف المقارنة السريعة بين النص القرآني والأحاديث نمطين مختلفين من الخطاب والفكر يستحيل أن يعبّرا عن إسلام واحد، فمقابل رحابة وعمق النص القرآني نجد الحديث أكثر استسهالاً وتغوّلاً على الحياة الإنسانية.

وحين نتذكر المآخذ على الإسلام سنجد أصولها تعود إلى الحديث لا القرآن، ومن مدونة الأحاديث يجد التطرف والرجعية سنداً، بممارسة انتقائية على الأحاديث، تمنح لبعضها سلطة التشريع وتنزعه عن البعض الآخر.

ويقوم الطرح الذي ينظر للأحاديث بمفهوم أبعد وأعمق من مسألة مصنفات الحديث، التي كتبت في زمن شاع فيه الحديث، وكان همّ المصنفين تبويب وضبط هذه الروايات، لا نقد عملية الرواية من أصلها، على تصنيف قوة الرواية، وتقسيماتها الثلاثة؛ متواتر، آحاد، خبر، بدلاً من التصنيف السائد؛ (صحيح، حسن، ضعيف)، وبتطبيق القسمة الأولى ينحصر دور الحديث وتعود للقرآن محوريته، كما كان الحال في عهد النبي وصحبه، الذين رفضوا تقديس كلام النبي من ناحية، ولأنّهم علموا أنّ عدم وجود نص مضبوط لكلام النبي يفتح الباب للكذب والغلو باسمه.

الباحث في الدراسات الدينية، هاني عمارة

ويوضح الباحث في الدراسات الدينية، هاني عمارة، أنّ قضية المتواتر والآحاد قديمة، أثارها أبو حنيفة وتلامذته، الذين رفضوا إصدار حكم بناء على رواية منقولة عن فرد، لأنّ شيوع فعل أو قول عن النبي يستلزم أن تنقله جماعة كبيرة، لكن أنّ ينفرد فرد، حتى لو كان صحابياً، بالنقل عن النبي، ثم يُراد فرض كلامه على المسلمين بحجية النصّ القرآني الواضح نفسها، فهذا لا منطق فيه.

ويردف عمارة، في حديثه لـ "حفريات"؛ "يختلف المذهب الحنفي عن المجموع في مسألة رفع اليدين في مواضع الصلاة، ويرفضون الأخذ بحديث الآحاد الذي يأخذ به الجمهور، وعلّتهم أنّ النبي لو واظب على رفع اليدين في عدة مواضع لكان الأمر شائعاً في صلاة الصحابة وصولاً للنقل بالعمل، ولا يحتاج لأن نبحث عن مرويّة مسنودة لشخص لنبدل ما ورثه الناس بالمشاهدة".

الباحث هاني عمارة لـ "حفريات": المتأخرون من السلفيين يأخذون بحديث الآحاد، ويرفضون من الأساس التقسيمة المستندة إلى قوة الرواية؛ متواتر وآحاد وخبر.

وأشار عمارة إلى أنّ المتأخرين من السلفيين يأخذون بحديث الآحاد، ويرفضون من الأساس التقسيمة المستندة إلى قوة الرواية؛ (متواتر وآحاد وخبر)، بينما قدامى المحدثين كانوا يأخذون بالآحاد في الفقه دون العقيدة، لأنّ صحة الآحاد هي الظن الراجح وليس القطع.

وبحسب ولي العهد، سيظلّ القرآن والسنّة المتواترة مصدر تشريع للمملكة، دون انقياد لمدرسة محددة في الفهم، مع مراعاة عدّة ضوابط للفهم، منها؛ مراعاة الظرف والمكان، وتنوع الفهم البشري، واتخاذ النبي ﷺ قدوة في فهمه للأحكام.

وكانت مسألة الأخذ بحديث الآحاد محلّ جدل بين الفرق الإسلامية في باب العقائد، دون الفقه، نظراً لأنّ الفقه ابن مجتمعه في الغالب، ولم تكن هناك حاجات قانونية ملحّة، مثلما بات حاصلاً اليوم، حيث تراجعت مسائل الخلاف العقدي بينما صارت مسائل الفقه محل جدل، ولذلك لا تتوافر مؤلفات حول الأحكام التي انبنت على حديث الآحاد، لكن، بحسب المعروف؛ معظم الأحاديث هي آحاد أو خبر، والمتواتر نادر خصوصاً في الأحكام.

وحتى حال حصر الأحاديث المتواترة، إلى جانب النصّ القرآني، فلا يعني ذلك توافر مدونة تشريعية واضحة، بل هذا التحديد لا يتجاوز محاولة التحري الإحصائي، لينتقل بعدها المشرع إلى قضية "الفهم" التي تفوق مسألة "التفسير" المعتمدة على مناهج متنوعة تعتمد على الفهم الحرفيّ للنصوص.

وكان لقضية "الفهم" نصيب وافر في الدراسات اللاهوتية الحديثة في الغرب، ثم انتقلت إلى الفكر الإسلامي، في النصف الثاني من القرن العشرين، وألّف فيها كثيرون من مفكري المسلمين، خصوصاً في إيران، وترتبط بشكل أساسي بكيفية فهم النصوص الدينية.

ويعبّر مصطلح "الهرمنيوطيقا" عن عملية الفهم، وهناك مدارس متعددة، باتت تتفق على عدّة مبادئ، منها؛ دراسة العامل الإنساني في عملية الفهم التي غايتها الوصول إلى "معنى"، وليس "المعنى" الذي يحتكر النصّ ويفرض عليه فهماً واحداً، بمعنى أنّ كلّ إنسان يُسقط خلفياته ومعارفه وحالته النفسية على النص، فلا وجود لفهم واحد مجرّد يستطيع احتكار النصّ.

اقرأ أيضاً: بعد مصر... كيف ستتعامل السعودية مع الدعوات التركية؟

وتطرّق الأمير بن سلمان إلى هذه المسألة من خلال ضرب مثال بفتاوى عالم عاش في القرن الماضي، دون أن يطلع على المنجزات الفلكية والبيولوجية والتقنية، موضحاً أنّ فتواه في هذه الحالة ستكون مقيّدة بسياقه، ولذا ففي كلّ عصر مطلوب من الناس إعادة الفهم بالرجوع للمصدر، وهي ما يمكن القول عنها "ديمومة الفهم"، وفي الهرمنيوطيقا عملية الفهم دائمة، وكلّ مفسّر ملزَم بتوضيح الأسس التي بنى عليها فهمه.

ويأتي حديث ولي العهد تمهيداً لكتابة منظومة قوانين جديدة في الأحوال الشخصية والعقوبات، ضمن خطوات تهيئة المملكة تشريعياً لتواكب وتخدم الأهداف المرجوة اقتصادياً واجتماعياً، وهي مسألة من المتوقع أن تخلق حالة من الجدل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية