حوار الركبة والرقبة

حوار الركبة والرقبة


07/06/2020

يمكن، لمن يملك طول البال، أن يتخيّل ما قالته رقبة القتيل الأسود، جورج فلويد، لركبة الشرطي الأبيض، ديريك تشوفين، التي ضغطت عليها بقوة. سيكون حواراً فلسفياً من تسع دقائق لا غير، كانت كافية لأن تشعل الغضب في الولايات المتحدة وخارجها. مات فلويد في مينيابوليس؛ فإذا بالشعوب تتذكر «فلويداتها» المحلية.
وقف والد سيدريك شوفيا أمام الكاميرات في باريس لكي يقدم نسخة فرنسية من الحادث الذي وقع في أميركا. كان ابنه يماثل فلويد في العمر، وهو رب لأسرة أيضاً، يعمل في توصيل الطلبات للمنازل. أوقفته دورية للشرطة قرب برج «إيفل»، مطلع العام الحالي، سحبوه من دراجته وبطحوه أرضاً. حاول الاعتراض فكمخ شرطيان فوق ظهره، ووقف شرطيان آخران يتفرجان. وكان هناك بين المارّة من قام بتصوير المشهد. شاهدنا ساقَي الموقوف تلبطان، في محاولة يائسة لرفع الضغط عن صدره. ولما فقد الوعي نقلوه إلى المستشفى، ومات هناك. وقرر الطبيب الشرعي أن سبب الوفاة اختناق مع كسر في الحنجرة.
الفارق الوحيد مع حادثة مينيابوليس هو أن الفيلم الفرنسي كان صورة من دون صوت. لم يسمع المشاهدون حوار العمود الفقري مع الرُّكب الأربع. والركبة عضو في الجسم مشتق من فعل الركوب. ومنه أيضاً الفعل الخماسي ارتَكَبَ. والارتكاب مقترن بالسيئ من الأمور؛ فالمرء لا يرتكب حَسنة أو فضيلة. لهذا نقول إن اللغة العربية بحر عميق. وهي تحدد مهمات الشرطة في المنع والردع والقمع وخدمة الشعب.
تقدمت أسرة سيدريك شوفيا بشكوى إلى القضاء. وذهبت أرملته درية لمقابلة وزير الداخلية. أرادت أن تسمع منه بأي ذنب قتلوا والد أطفالها الخمسة. وطلب محامي الأسرة وقف أفراد الدورية عن العمل لحين انتهاء التحقيق. وهو ما لم يحصل. لكن نائباً في البرلمان تقدم بمشروع قانون يمنع بطح المشتبه بهم وشلّ حركتهم بالقوة. هناك حوادث تسببت في وفيات، ثم جاءت «كورونا» وأجّلت مناقشة المشروع. وبعدها جاءت قضية جورج فلويد التي أجَّجت أميركا وانتقلت شرارتها إلى باريس. خرجت مظاهرة حاشدة للتذكير بقضية أداما تراوري، المهاجر الذي مات على يد الشرطة. تختلف الأسماء وتتشابه التفاصيل: شاب من أصول أفريقية أو عربية، غالباً، يفقد حياته أثناء تحقيق فظّ.
تنشط جمعيات عالمية، منذ عشرات السنين، ضد التعذيب في السجون. ليست خافيةً الوسائلُ التي تُستعمل لانتزاع الاعترافات من المتهمين. وهناك دول تنص قوانينها على منع التعذيب. لكنها تنقل السجين إلى دول صديقة لتتم المهمة القذرة هناك. وبهذا تبقى أرضها نزيهة وسجونها نظيفة. ولما شاهدنا الصور في سجن «أبو غريب» تأكدنا أن بضاعتهم الهوليوودية أقوى من بضاعتنا. سمعنا من يجادل بأن هناك فَرقاً بين التحقيق مع إرهابي أو مع سائق ارتكب مخالفة مرورية.
لبّ الحديث، اليوم، عن العنصرية. ونشر الممثل الفرنسي الأسود عمر سي نداء بعنوان «لنستيقظ!»، يدعو فيه لشجب عنف الشرطة، وغربلة الطيبين عن الأشرار. إن عمر من أصل سنغالي. وهو من بين الشخصيات الأكثر شعبية في فرنسا. لهذا فإن نداءه يلقى آذاناً صاغية. يقول إن اسم جورج فلويد يحيله إلى أسماء الضحايا الكثر في فرنسا: مالك أوسيكين، ماكومي، الأمين ديينغ، بابكر غوي، غاي كامارا، إبراهيم باه، ريمي فريس، أنجيلو غاران، صبري شوبي، سيدريك شوفيا، علي زيري، حكيم عجيمي، غابرييل، زياد، بونا، أداما... كل هؤلاء ماتوا بين يدي الشرطة. هل يكون لون البشرة هو الحَكَم؟

عن "الشرق الأوسط" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية