خروج الرئيس بوتفليقة من الباب الضيق.. ماذا بعد؟

خروج الرئيس بوتفليقة من الباب الضيق.. ماذا بعد؟


04/04/2019

أزراج عمر

لا شك أن المناخ السياسي الجزائري سيشهد تداعيات كثيرة عقب رحيل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عن الحكم بعد أن رمى المنديل الثلاثاء الماضي في ظل وضع شديد الغموض، حيث لم يتضح بعد إذا كان قد استقال طواعية حقا، أم أقيل بطريقة أريد لها أن تظهر للناس بمظهر انسحاب مخملي من الحكم.

وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة بسرعة إلى أن الرئيس بوتفليقة قد ظهر على شاشات التلفزيونات الجزائرية الرسمية والخاصة حزينا وبلباس تقليدي وهو يقرأ نص التنحي من الحكم بتأنّ وبطء، قبل أن يسلمه لرئيس المجلس الدستوري بلعيد بلعيز بحضور رئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح، وجراء ذلك فقد بدا وكأن ذلك النص لم يطلع عليه من قبل وأنه كُتب له دون علمه الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة تتصل بالملابسات المعقدة التي تحيط بالمشهد السياسي الجزائري الراهن.

وفي الواقع فإن المشهد السياسي قد تميز منذ بداية الحراك الشعبي بوتيرة التسارع والغموض وحرب الإشاعات سواء على مستوى وسائل الاتصال الاجتماعي أو المنابر الإعلامية الجزائرية التابعة للنظام وتلك التابعة للقطاع الخاص، أو على مستوى الأحزاب بكل فصائلها وانتماءاتها، الأمر الذي جعل المواطن الجزائري في وضع يتسم بالقلق الحاد من مصير البلد بأكمله.

وفي هذا الأسبوع بدأت مظاهر الصراع تتضح بين الأجنحة المكونة لتركيبة النظام الحاكم ولكنها لم تصل إلى مرحلة الانفجار العنيف، علما أن الخلاف قد نشب فعلا، كما أكدت لنا مصادر عسكرية جزائرية قريبة من مراكز صنع القرارات، بين قطاع واسع من الحرس الجمهوري التابع مباشرة للرئيس بوتفليقة والذي يعمل تحت إمرة الفريق بن علي بن علي المولود بتلمسان وهو شقيق الشهيد العقيد لطفي المنحدر من عائلة بودغن الإسطنبولي ذات الأصول التركية.

من الملاحظ هنا هو أن تعداد جنود الحرس الجمهوري يبلغ عشرين ألف جندي وأن قادة هذا الحرس منذ عام 2000 حتى الآن هم اللواء علي جمعة، والعميد العياشي غريد، والعميد عبدالغني هامل، واللواء أحمد مولاي ملياني وقائد الحرس الجمهوري الحالي الفريق بن علي بن علي. ومن المؤكد أن هؤلاء القادة قد انحدروا كلهم من محافظة تلمسان التي تعتبر مزرعة عائلة عبدالعزيز بوتفليقة وعدد من أقطاب النظام الحاكم الآخرين الذين مارسوا الحكم في مرحلة بوتفليقة على أساس نزعة العصبية التي تعتبر من بقايا المجتمع الإقطاعي الجزائري المتخلف.

وفي الحقيقة فإن الرئيس بوتفليقة قد ارتكب أخطاء كبيرة طوال فترة إصابته بالمرض المزمن حتى آخر لحظات تنحيه كرئيس دولة. وقد لعبت هذه الأخطاء القاتلة التي لا يرتكبها إلا سياسي ساذج وغير عقلاني، دورا مفصليا في الإساءة إلى ماضيه التاريخي أيام حركة التحرر الوطني وإلى نشاطه الرئاسي في فترات العهدة الأولى والثانية وحتى الثالثة التي تمكن فيها من المساهمة في وقف الدماء في إطار ما يدعى بالوئام المدني والمصالحة الوطنية.

من أبرز هذه الأخطاء تحويل الحكم إلى فضاء عائلي بعباءة تلمسانية، حيث قام بتعيين أخيه السعيد كمستشار له في عقر الرئاسة بقصر المرادية، وأخويه الآخرين في مناصب الحل والربط في مؤسسات الحكومة فضلا عن تعيينه لـ13 وزيرا منحدرين كلهم من محافظة تلمسان والغرب الجزائري، وهو ما لم يجرؤ على فعله رؤساء جزائريون سابقون بمثل هذا الإصرار الذي تجاوز منطق توزيع السلطة بالعدل في الجزائر العميقة.

وفي الواقع فإن انفجار الحراك الشعبي بكل ملابساته وتعقيداته التي سوف تكشف عنها الأيام ليس إلا ترجمة لخيبة الأمل التي عصفت بالمواطنين الجزائريين في عهد الرئيس بوتفليقة دون أدنى شك، ولكن من الموضوعية القول إن السنوات الأولى من حكم الرئيس بوتفليقة قد ساهمت فعليا في وقف الدماء التي سالت في الجزائر طوال فترة العشرية السوداء، ولكن وقف الدماء لا يعني أن مرحلة بوتفليقة كانت مرادفة لمشروع حضاري تقدمي مرسوم وجاهز ومجسد في الفضاء الوطني على مستويات تكريس المعمار العصري المؤسس على أعمدة الهوية الوطنية عبر التاريخ، وصنع الثقافة الحديثة، وابتكار نمط الاقتصاد الوطني الناجح والقادر على إشباع حاجيات المواطنين وعلى المنافسة إقليميا ودوليا، وتربية الإنسان الجديد في مجتمع مؤسس على وازع الثقة والاحترام والشراكة والفاعلية الحضارية المميزة.

وفي الحقيقة فإن الرئيس بوتفليقة قد عين في العقدين الذين حكم فيهما أشخاصا لا علاقة لهم بالدولة الحديثة فكريا وسياسيا وممارسة ميدانية، الأمر الذي جعل مرحلته عاجزة عن إحداث نقلة نوعية يتم بموجبها تغيير البنيات المادية والرمزية المتخلفة في المجتمع الجزائري، وفي مقدمتها جزء مهيمن من البنية الثقافية الوطنية العميقة الموغلة في التخلف والرجعية.

ومن الغريب أن بوتفليقة قد تغاضى عن حقيقة مرّة وهي أن هذه البنيات المتضافرة هي التي لعبت دورا محوريا، إلى جانب الوضعيات المؤلمة الموروثة عن المرحلة الاستعمارية التي عرفتها الجزائر في تاريخها الطويل والتي لم تعالجها بحكمة وفاعلية، في إفراز ظاهرة العنف المادي والرمزي المركبة، وهي الظاهرة التي لا تزال تطبع الواقع السياسي الجزائري المريض بالأحادية والفردية اللتين تتنافيان مع أدنى شروط الدولة العصرية الديمقراطية.

أما الخطأ الجوهري الآخر الذي ارتكبه عبدالعزيز بوتفليقة فيتمثل في أنه فرض الهزيمة على التعددية الحزبية، حيث حوّل الأحزاب إلى غطاء للحكم الفردي المتزامن مع انتشار العشائرية والشللية والجهوية في الحياة السياسية الجزائرية.

صحيح أن حسم بوتفليقة لملف الهوية الأمازيغية بواسطة ترسيم لغة الأمازيغ هو خطوة أولية إيجابية، غير أنّ ما تحقق حتى اليوم لم يجعل هذه اللغة لغة المحيط الوطني والإدارة والعلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية والتكنولوجيا، وليس هناك أي أفق لتحويلها إلى لغة واصفة ومستوعبة للفكر المؤسس على المفاهيم والنظريات، بل إن اللغة الأمازيغية لا تزال منبوذة في المحيط الجزائري العام وحتى في الفضاء الجغرافي الأمازيغي الواسع، وفضلا عن ذلك فإن الاعتراف بهذه اللغة المنصوص عليه في الدستور الجزائري خلال عهد بوتفليقة هو في العمق مجرد تكتيك سياسي يهدف أساسا إلى احتواء منطقة البربر وإلى سحب البساط من تحت أقدام فصيل معروف برفضه للنظام الحاكم، وبمطالبته في نفس الوقت بالاستقلال الذاتي حينا وبالانفصال وإنشاء دولة للبربر حينا آخر.

في سياق آخر تنبغي الإشارة إلى أن القضاء على الديون الخارجية التي كانت تقدر بمبلغ 32 مليار دولار تسجل في إطار الإيجابيات لصالح بوتفليقة، ولكن انخراط النظام الجزائري بقيادته وبمباركة أحزاب الموالاة ومختلف أجهزة الحكم السياسي والأمني والعسكري في الرأسمالية المتوحشة قد أدى إلى تحطيم الشريحة الوسطى وتحقيرها، وإلى بروز الاستغلال المركب في المجتمع الجزائري.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية