خطاب ترامب ومواجهة العولمة

خطاب ترامب ومواجهة العولمة


01/10/2018

السيد ولد أباه

في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب علناً أن نهجه في السياسة الخارجية هو مواجهة العولمة والتمسك بالوطنية الأميركية بما تقتضيه من أولويات وخيارات قومية تراعي مصالح بلده وأمته قبل أية التزامات خارجية تفرضها الشراكة الدولية. هذه أول مرة يتبرأ رئيس غربي من حركية العولمة الرأسمالية التي تشكلت وتوطدت في الولايات المتحدة من حيث هي مركز «الاقتصاد - العالم» (بلغة المؤرخ الفرنسي فرناند برودل) منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
هجوم الرئيس ترامب شمل كل دوائر العولمة من المؤسسات الاقتصادية والمالية إلى المؤسسات السياسية الدولية والمحكمة الجنائية العالمية، بما يتجاوز في الواقع حدود النزعة الانكفائية المألوفة أحياناً في الخطاب السياسي الأميركي ويطرح أسئلة جوهرية على مستقبل النظام العالمي وأسسه المرجعية. وإذا كانت فرنسا وألمانيا تتزعمان حالياً خط العولمة الاندماجية وما تقتضيه من مقولة الشراكة الدولية، في حين ترفع الصين لواء تحرير التجارة العالمية في مواجهة منطق الحماية الذي يعتمد ترامب، إلا أن الأمور تظهر عند التمحيص أكثر تعقيداً. «لاري أليوت» المحرر الاقتصادي لصحيفة «الجارديان» البريطانية العريقة ذهب في مقال أخير منشور في الصحيفة ذاتها (26 سبتمبر) إلى أن خطاب ترامب على عكس الصورة الكاريكاتورية التي يقدمها فيه الإعلام السيار قد يكون الخيار الأمثل للتعامل مع رهانات الاقتصاد العالمي الجديد.
ما يشير إليه هنا «إليوت» هو ما نعبر عنه بضرورة التمييز ما بين الثوابت الليبرالية الأساسية التي تنحصر في قيم الحرية والتنافسية والإنتاجية والمقاربة التي تسعى لنشرها وتعميمها صناديق التمويل الدولية في ربطها للنمو والرفاهية بإزاحة كل العقبات والحدود التي تعيق حركية الأموال والبضائع والخدمات والأشخاص، وفي مقدمتها الأجهزة المركزية للدولة الوطنية السيادية.
ما يبينه «أليوت» هو أن هذه الأطروحة تقوم على مسلمات ثلاث غير دقيقة هي: ضرورة الخروج من نموذج الدولة الوطنية الذي لم يعد يتلاءم مع طبيعة الاقتصاد العالمي الجديد، والقول إن للسوق منطقه الذاتي الطبيعي الذي لا سبيل للتحكم فيه، والقول إن التطور التاريخي للرأسمالية لا يد له أن يولد في نهاية المطاف شكل الحكامة السياسية المناسب له الذي هو الكيان ما بعد القومي.
إن هذه المسلمات الثلاث تعاني من ثغرتين أساسيتين توقف عندهما «أليوت» ومن ثغرة ثالثة محورية لم يتحدث عنها. من الملاحظات التي بينها صاحب المقال أن تجارب النمو الاقتصادي الناجحة في العالم قامت على استراتيجيات وطنية أشرفت عليها الدولة وقادتها في غالب الأحيان، ومن هذه الاستراتيجيات بناء ودعم الشركات الوطنية الكبرى وحماية المنتج الوطني وصيانة النظام النقدي والمصرفي المحلي، ومثال التجربة الصينية في هذا الباب واضح لا يحتاج لبيان.
كما أن العولمة الراهنة وإنْ كانت لها مقوماتها الموضوعية من حيث طبيعة الثورة التكنولوجية الاتصالية وآثارها الكونية، إلا أن اتجاه هذه العولمة هو في جانب مهم منه تجسيد لخيارات سياسية ليست بالضرورة ملزمة ولا حتمية، من أبرز مظاهرها تغليب مصلحة الرأسمال على الشغل أي فرص العمل ووضعية العمالة.
فما يجري حالياً في الديمقراطيات الغربية ليس التمرد على المنظومة الليبرالية والخروج منها أو العودة للدولة القومية التقليدية بحدودها المغلقة، وإنما البحث عن الأمن الاقتصادي والاجتماعي في مواجهة الاختلالات العميقة التي خلفتها حركية الليبرالية المالية غير المقننة في تقويضها للوظيفة السياسية التقليدية للدولة التي هي الإدماج الوطني وتكريس وتوطيد الخير الجماعي المشترك الذي لا يمكن أن يختزل في الرأسمال المادي.
بيد أن الذي لم ينتبه إليه «إليوت» هو أن الوصفات الليبرالية للمؤسسات المالية الدولية هي السبب الرئيسي في انهيار الدول الوطنية الجنوبية، في أفريقيا وأميركا اللاتينية على الأخص، التي روجت لها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي من خلال أطروحة الخصخصة والتخلي عن الأدوار الرعوية الاجتماعية للدولة والاندماج الكلي في السوق العالمية، دون مراعاة موازين النظام الدولي المختل والطبيعة التاريخية لهذه المجتمعات الهشة. وهكذا فالدرس الأساسي الذي نستخلص اليوم من صعود النزعات الشعبوية في الدول الغربية الكبرى هو أن إعادة الاعتبار للقيم الوطنية ومنطق السيادة واستقلالية القرار وتأكيد الحقوق الاجتماعية ليست من رواسب الأيديولوجيات القومية والوطنية البالية وإنما هي من الثوابت الأساسية للفعل السياسي نفسه من حيث هو التعبير عن الإرادة المشتركة والمصالح العليا للأمة.

عن "الاتحاد"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية