خطوات الإمارات نحو سوريا لم تأت من فراغ

خطوات الإمارات نحو سوريا لم تأت من فراغ


13/11/2021

الحبيب الأسود

الزيارة التي أداها وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان إلى دمشق لم تأت من فراغ، وإنما من سياق شامل شهد الكثير من المبادرات والمواقف اللافتة خلال السنوات الماضية. ففي السابع والعشرين من ديسمبر 2018 أعادت دولة الإمارات العربية المتحدة فتح سفارتها في دمشق، وفي السابع والعشرين من مارس 2020، وبينما كانت سوريا تواجه نذر الانتشار الواسع لجائحة كورونا بحث ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في اتصال هاتفي مع الرئيس بشار الأسد سبل التصدي لتلك الأزمة، وأكد دعم بلاده للشعب السوري في هذه الظروف الاستثنائية، مشيرا إلى أن “التضامن الإنساني في أوقات المحن يسمو فوق كل اعتبار”، ومؤكدا أن “سوريا لن تبقى وحدها في هذه الظروف الحرجة”.

وفي العشرين من أكتوبر 2021 تلقى ولي عهد أبوظبي اتصالا هاتفيا من الرئيس السوري بحثا خلاله الأوضاع في سوريا والشرق الأوسط و”علاقات البلدين الشقيقين وسبل تعزيز التعاون المشترك في مختلف المجالات لما فيه مصالحهما المتبادلة” وفق البيان الرسمي الإماراتي.

قبل ذلك بأيام قليلة، قالت وزارة الاقتصاد الإماراتية إن الإمارات وسوريا اتفقتا على خطط لتعزيز التعاون الاقتصادي واستكشاف قطاعات جديدة.

نظرة بسيطة على مستوى التعاون بين البلدين تكفي لفهم طبيعة العلاقات الوطيدة والعريقة بينها، وهي علاقات تتخذ أبعادا اجتماعية وحضارية وثقافية مهمة إلى جانب البعد الاقتصادي، ولديها جذور ضاربة في التاريخ وممتدة من خلال جسور الجغرافيا، وحتى مرتبطة بالعاطفة القومية والإنسانية. كل من قضى فترة من الزمن في الإمارات لا بد أن يلاحظ الحضور القوي للسوريين هناك، والاحترام الكبير الذي يحظون به في الدولة الخليجية المحبة للشام وأهلها. ورغم كل الـظروف التي مرت بها سوريا خلال السنوات العشر الماضية لم تنقطع جسور التواصل بينها وبين الإمارات التي كانت تراقب عن قرب كل التحولات الجارية في المنطقة منذ أوائل العام 2011 في ظل ما يسمى بثورات الربيع العربي، وإذا كانت أبوظبي مرتبطة بالتزامات إقليمية ودولية تفرض عليها بعض المواقف المعلنة، إلا أنها لم تكن من تلك الأطراف المندفعة لصب الزيت على النار في الداخل السوري من خلال تمويل وتسليح وتبنّي الجماعات الإرهابية، وتحويل دمار سوريا وتخريبها إلى مشروع ارتزاق عابر للحدود، فالقراءة الإماراتية كانت منذ البداية واضحة في رؤيتها للواقع: هي مع الدول الوطنية مهما كان الخلاف السياسي قائما معها، وضد فوضى ميليشيات الإسلام السياسي بشقيه السنّي والشيعي، وتدرك أن أي دعم لتلك الميليشيات إنما هو تآمر مباشر ومعلن على الأمن القومي العربي، وخدمة مجانية للمشاريع التوسعية للقوى الإقليمية المتنافسة على بسط نفوذها على المنطقة العربية.

وإلى حد الآن تعد الإمارات أهم الشركاء التجاريين لسوريا على المستوى العالمي، وتحتل المرتبة الأولى عربيا والثالثة عالميا، إذ تستحوذ على ما يتجاوز 14 في المئة من تجارة سوريا الخارجية.

وقد بلغ حجم التجارة غير النفطية بين البلدين مليار درهم (272 مليون دولار) في النصف الأول من 2021، في حين بلغ خلال العام الماضي 2020 نحو 2.6 مليار درهم، كما تجاوزت قيمة الاستثمار السوري المباشر في الإمارات 1.5 مليار درهم (408 ملايين دولار) بنهاية 2019.

هذه الأرقام وغيرها تشير إلى أن العلاقات لم تنقطع يوما بين البلدين، كما أن الرحلات الجوية استمرت على نشاطها، وكذلك تحويلات الجالية السورية التي مثلت أحد أهم موارد العملة الصعبة لميزانية الدولة، فقد كانت الإمارات الرئة الفعلية التي يتنفس منها السوريون من خارج بلادهم ولاسيما في محيطهم العربي.

وجاءت زيارة الشيخ عبدالله بن زايد إلى دمشق الثلاثاء الماضي لتتناول “العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين وتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات” وفق وكالة الأنباء السورية التي نقلت عن الرئيس بشار الأسد تأكيده على العلاقات الأخوية الوثيقة بين سوريا والإمارات، وأنه “نوّه بالمواقف الموضوعية والصائبة التي تتخذها الإمارات”.

وزير الخارجية الإماراتي أكد “دعم الإمارات لجهود الاستقرار في سوريا”، معتبرا أنه “حصل فيها أثر على كل الدول العربية”، وهذا الأمر يدركه كل من ينظر إلى الواقع من خارج الأحكام الأيديولوجية والسياسية أو الحسابات المصلحية، حيث أن العرب وكعادتهم فشلوا في الامتحان السوري، كما فشلوا قبله في الامتحان العراقي، وفي امتحاني ليبيا واليمن، وذلك بسبب تشنج المواقف والتحرك من منطلق المشاعر والشعارات والحسابات الضيقة، وفقدانهم للرؤية الاستشرافية والوعي الاستراتيجي بالأحداث وما قد ينجم عنها من نتائج مدمّرة من شأنها أن تعيد تشكيل خارطة الأولويات بشكل عبثي.

كانت الإمارات سبّاقة، ومنذ عهد الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في تبني مبدأ الاحتواء، كانت دائما ضد الحروب والمواجهات والمؤامرات والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهي بالطبع ضد العنف بكل أشكاله، ومن ذلك العنف السياسي، وضد صراع الأيديولوجيات ومنها أيديولوجيا الإسلام السياسي ومشاريع الإخوان الساعين إلى السيطرة على المنطقة بإطاحة مفهوم الدولة الوطنية ومؤسساتها، ولذلك اعتبر البعض أن الإمارات تمثل الثورة المضادة، أو أنها تدعم الدكتاتوريات، بينما هي تقف ضد مشروع الفوضى الذي تم التخطيط له في الغرف المظلمة ونفذه رعاة التغيير العنيف عبر استباحة الأوطان وسفك دماء الشعوب من أجل التمكين للإسلاميين.

ربما اعتبرت بعض الدول العربية التحالف السوري مع إيران خطرا على الأمن القومي، وهذا أمر قد يستمر الجدل حوله طويلا بسبب خلفياته التاريخية والأيديولوجية والسياسية، ولكن المؤكد أن قدرة النظام السوري على الصمود في وجه العواصف التي مرت به خلال السنوات الماضية لا تقل أهمية عن ثورة الثلاثين من يونيو المصرية ضد حكم المرشد في التصدي لمشروع جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية، فقد كان حكم الشام مشروعا ملحّا للإسلام السياسي في كامل البلاد العربية والإسلامية بما فيها منطقة الخليج العربي، وكان الترويج له يدور في المساجد والمجالس والمنتديات على أنه المنطلق الأساسي لإعادة تكريس مشروع الخلافة بدءا من دمشق، ولو نجح هذا المشروع لذهبت العاصفة بعيدا في شتى الاتجاهات.

تراهن الإمارات على أن يعي العرب ضرورة استعادة سوريا لموقعها في قلب أمتها العربية، وأن يتخلى بعضهم عن العناد كآلية بدائية لتصفية الحسابات، وعن الرهانات التي تجاوزها الزمان، بل يمكن القول إن الإمارات فسحت المجال أمام بقية دول الخليج ولاسيما المملكة العربية السعودية لإعادة تطبيق تجربتها الاحتوائية الناجحة في العراق على النموذج السوري، وللوقوف مع عروبة سوريا كما كان الوقوف مع عروبة العراق في وجه أطماع الجارين الفارسي والتركي.

وما تدافع عنه الإمارات هو أن سوريا دولة مركزية ولا يمكن تهميشها، كما لا يمكن السماح بالتخلي عنها، فالسياسة كالطبيعة تأبى الفراغ، والفراغ في سوريا إن لم يملأه العرب، سيأتي آخرون ويملأونه وهم كثر يتحركون برّا وبحرا وجوّا، ويطمحون إلى تقاسم سوريا كغنيمة حرب في آخر المطاف، وليس من مصلحة العرب التخلي عن شامهم لأي كان سواء كان روسيّا أو تركيّا أو إيرانيّا أو أميركيّا أو غيرهم.

والثابت والمؤكد أن الإمارات لم تنتظر ضوءا أخضر من أي كان للسير خطوات جديدة في اتجاه دمشق، فالسنوات الماضية كانت كافية لتجعلها تحدد مساراتها السياسية والدبلوماسية برؤية مستقلة تماما من خلال سعيها لضمان التوازن في علاقاتها الخارجية ولتنفيذ قناعاتها المبدئية في التعامل مع الأحداث المؤثرة والملفات الشائكة إقليميا ودوليا، وكذلك من خلال عدم ربط قراراتها بأي طرف كان، وخاصة بعد أن أثبتت واشنطن بالذات والدول الغربية جهلا كبيرا بالمنطقة العربية وفشلا ذريعا في التعامل مع ملفاتها وتذبذبا في اتخاذ القرارات المناسبة.

في أواخر مارس القادم ستنعقد القمة العربية بالعاصمة الجزائر، وهناك مساع لأن يكون من أولوياتها إعادة سوريا إلى بيت العرب الذي كانت من إحدى دوله المؤسسة في العام 1945، وقد تكون زيارة الشيخ عبدالله بن زايد إلى دمشق مناسبة لتوجيه رسائل في اتجاهات عدة ومنها دول الخليج العربي التي لا يزال بعضها رافضا لعودة سوريا إلى حاضنتها القومية.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية