دار الأوبرا المصرية: 150 عاماً من المقاومة بالفنّ

دار الأوبرا المصرية: 150 عاماً من المقاومة بالفنّ


28/11/2019

ربما للمرة الأولى في تاريخ دار الأوبرا المصرية، يحدث أن يمتنع الفنانون عن تقديم فنونهم، بعد أن احتلوا خشبة المسرح، لتعلوا هتافاتهم رافضة حكم جماعة الإخوان المسلمين، في أيار (مايو) 2013، ذلك الهتاف الذي تحوّل إلى اعتصام في دار الأوبرا، استمر لبضعة أيام، قبل أن تتحرك مسيرة من مثقفي مصر من دار الأوبرا إلى مقرّ وزارة الثقافة المصرية، ليبدأ اعتصام انتهى بخلع جماعة الإخوان، عقب ثورة حزيران (يونيو) 2013، وللمرة الأولى أيضاً يشاهد أهل مصر عروض الباليه في الطرقات، بعيداً عن خشبة مسرح دار الأوبرا، تعبيراً عن عداوة الفنّ الأبدية مع الإرهاب، وعن مقاومة التطرف في كلّ مكان، غير أنّ ما حدث في ذلك اليوم لم يكن وليد اللحظة، لكنّه نتاج 150 عاماً من الفنّ، هي عمر دار الأوبرا المصرية، التي تحتفل بتلك الذكرى هذه الأيام.

الأوبرا الخديوية
ارتبطت قصة إنشاء الأوبرا ارتباطاً وثيقاً بافتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل، الذي كان شغوفاً بالفنون، لذلك سميت "الأوبرا الخديوية"، والذي كلف المهندسَين الإيطاليَّين، أفوسكاني وروسي، بوضع تصميم لها يراعيان فيه الدقة الفنية والروعة المعمارية، واهتم الخديوي إسماعيل بالزخارف والأبّهة الفنية، فاستعان بعدد من الرسّامين والمثّالين والمصوّرين، لتزيين الأوبرا وتجميلها، وتمّ افتتاح "الأوبرا الخديوية" في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1869، تزامناً مع احتفالات قناة السويس.

عُدَّت الأوبرا، في مقرها القديم، الأولى في قارة أفريقيا ومسرحها كان واحداً من أوسع مسارح العالم رقعة واستعداداً وفخامة

تعدّ الأوبرا، في مقرّها القديم، الأولى في قارة أفريقيا، ويعدّ مسرحها واحداً من أوسع مسارح العالم رقعة واستعداداً وفخامة، وفي فجر الـ 28 من تشرين الأول (أكتوبر) 1971؛ احترقت دار الأوبرا المصرية القديمة بالكامل، ولم يتبقَّ منها سوى تمثالَي "الرخاء" و"نهضة الفنون"، وهما من عمل الفنان محمد حسن.
عن بداية بناء الأوبرا، ذكر كتاب "تاريخ المسرح في العالم العربي – القرن التاسع عشر"، تأليف سيد علي إسماعيل؛ أنّ البداية كانت من خلال أمر من قِبل الخديوي إسماعيل للمهندس أفوسكاني، مسؤول بناء الأوبرا، في أيار (مايو) ١٨٦٩، وانتهى البناء الهيكلي للأوبرا، في أول أيلول (سبتمبر) ١٨٦٩.
وواجهت الأوبرا العديد من العقبات منذ مسيرتها الأولى، منها: توقّفها بسبب أزمة الديون وعزل الخديوي إسماعيل، وانقطاع أخبارها الإدارية، سواء في الدوريات أو الوثائق، حتى ١١ أيار (مايو) ١٨٨٠، عندما تقدمت نظارة الأشغال بمذكرة لمجلس النظار، بخصوص الطلبَين المقدَّمين إليها من لجنة التياترات، لبداية نشاط الأوبرا من جديد، الأول من موسى بك، المدير السابق لمصلحة البريد المصرية، والثاني من المسيو لاروز، أمين مخازن التياترات.
الأوبرا محظورة على المصريين
بحسب كتاب سيد علي إسماعيل؛ كانت الأوبرا الخديوية قاصرة على الأجانب فقط في البداية، ورغم السماح للمصريين بالحضور إلى الأوبرا لاحقاً، فقد ظلّت اليد الطولى في فرقها الفنية للأجانب لأعوام؛ الذين كانوا يشكّلون نصيب الأسد من فنانِي الأوركسترا كمثال، بحسب حوار صحفي منشور لوزيرة الثقافة المصرية، إيناس عبد الدايم: "وحتى عودتي، عام 1990، لم أكن قد دخلت مبنى دار الأوبرا الجديدة، والتي سبق أن افتتحت عام 1988، لكن بعد عودتي أصبحت عضواً في أوركسترا القاهرة السيمفوني، وكانت تلك المرحلة التي أصبح عدد العازفين المصريين في الأوركسترا بنسبة أكبر، أو نستطيع أن نقول إنه تمصّر بنسبة أكبر، وهنا كنت، أنا وكثيرون من جيلي، قد بدأنا بالعودة من البعثات الخارجية، وبالفعل معظمنا دخل الأوركسترا، وكانت بدايتي مع الأوركسترا على مسرح الجمهورية، ثمّ ضمّ إلى دار الأوبرا، أول التسعينيات"، مضيفة: "عند عودتنا، كمصريين وعازفين، من الخارج، كنا لا نتعدى ثمانية أشخاص في منظومة 70 عازفاً"، وأشارت عبد الدايم إلى أّنها؛ إلى جوار العديد من زملائها في المناصب المختلفة بوزارة الثقافة المصرية، عملوا على إحلال الفنان المصري بديلاً عن الفنان الأجنبي: "وصلنا اليوم إلى أن تكون نسبة المصريين في الأوركسترا 70%، ونسبة الأجانب 30%".
دار الأوبرا الجديدة

ملعب التخليعات التصويرية
في بداية نشأة الأوبرا كانت فنونها غريبة على المشهد في القاهرة، ليس فقط على مستوى العامة، لكن على مستوى النخبة أيضاً، يشير سيد علي إسماعيل في كتابه، إلى خبر نشرته إحدى الصحف المصرية، تناول افتتاح دار الأوبرا في القرن التاسع عشر، أطلقت فيه المجلة على المبنى اسم "الأوبيرة"؛ لأنّ لفظ الأوبرا كان جديداً على الشعب العربي: "نلاحظ في هذا القول أنّ المجلة وصفت كيفية نطق كلمة الأوبيرة، أي الأوبرا؛ لأنّها لفظة جديدة على الشعب العربي في ذلك الوقت، ثم نجدها أيضاً تقول عن وصف دار الأوبرا؛ أنّها ملعب التخليعات التصويرية الممزوجة بالألحان الموسيقية، وكلمة ملعب هي مرادفة لكلمتَي تياترو أو مسرح، في ذلك الوقت، أما كلمة تخليعات؛ فالمقصود منها عدم التحكم في حركات الجسد، مما يعطي إحساساً للمشاهد بالضحك؛ لأنّ التمثيل في ذلك الوقت كان في نظر الناس نوعاً من الخلاعة".

اقرأ أيضاً: عرض أول أوبرا إماراتية في إكسبو 2020 دبي
ورغم أنّ المشهور تاريخياً أنّ الأوبرا تعرضت للحريق أوائل السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنّه، وطبقاً للوثائق التاريخية، فقد تعرضت الأوبرا للحريق في اليوم الثاني من افتتاحها، وذكر ذلك سيد علي إسماعيل في كتابه: "وإذا كنا قد أثبتنا أنّ افتتاح الأوبرا كان في ١ تشرين الثاني (نوفمبر)  ١٨٦٩، بقطعة غنائية، إلا أنّ "أوبرا ريجوليتو" تمّ عرضها في اليوم التالي، ومن الطريف أنّ هذه الأوبرا لم يكتمل عرضها؛ إذ حدث حريق أثناء العرض أدّى إلى فرار الممثلين".
انقطع نشاط الأوبرا، للمرة الأولى، بسبب الديون المصرية، وعزل الخديوي إسماعيل، وتولّي ابنه، محمد توفيق، ليعود النشاط مرة أخرى للأوبرا، في ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٨٨١، عندما عرض مديرها لاروز، أول رواية لمسرح الطفل في مصر، تعتمد أساساً على فنّ البانتومايم.
بقايا دار الأوبرا القديمة بعد الحريق

حريق دار الأوبرا المصرية
استمرّ نشاط الأوبرا في مقرها القديم حتى استيقظ المصريون، صباح التاسع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1971، على خبر حريق الدار، أحد أهم الآثار الثقافية بمصر، التي غنّى على مسرحها كبار المطربين المصريين والعرب والأجانب، وتمّ تفسير الحريق بأنّه بسبب ماس كهربائي.
غير أنّ مسألة الماس الكهربائي لم تكن قوية كفاية حتى تمرّ المسألة مرور الكرام، فقد نقلت تقارير صحفية تصريحاً للدكتور جابر البلتاجي، نائب مدير دار الأوبرا المصرية الأسبق، أشار خلاله إلى أنّ حريق الأوبرا تمّ بفعل فاعل؛ لأنّه قبل الجريمة بشهرين كان هناك تجديد بالفعل لشبكة الكهرباء بالمبنى، والشبكة كانت جديدة، خصوصاً أنّ البعض أبلغ عن سرقة بعض محتويات دار الأوبرا، مثل النجفة الكبيرة، التي لا يمكن أن تخرج دون فكّها إلى أجزاء، وبعض الأثاث.

اقرأ أيضاً: افتتاح ليالي الأوبرا المصرية في الرياض
لكنّ الأهم من ذلك، كما يقول الدكتور البلتاجي؛ هو اختفاء "برتاتورة" أوبرا عايدة الأصلية، وهي عبارة عن مجلد ضخم يضمّ التفريغ الإخراجي الكامل لتفاصيل العمل الفنّي، التي كتبها مؤلفها الإيطالي العالمي (فيردى) بخطّ يده، كما سُرقت ملابس لا تقدر بثمن، كان يرتديها الفنانون العالميون أثناء العروض على مسرح الأوبرا.
وقال البلتاجي إنّ الصحف الإيطالية ذكرت، عام 1976، أي بعد الحريق بخمسة أعوام، أنّ أحد كبار قيادات الأوبرا عرض هذه البرتاتورة للبيع في إيطاليا، وأنّ صديقه، الفنان حسن كامي، أبلغه بهذا الخبر، وقال إنّ الصحف الإيطالية ذكرت اسم البائع الذي كان يشغل منصباً رفيعاً في دار الأوبرا، إضافة إلى أنّ الحريق تمّ قبل الجرد بأيام قليلة، ما يؤكّد سرقة واختلاس بعض المقتنيات.
مقر دار الأوبرا القديمة

17 عاماً من غياب الأوبرا
17 عاماً هي الفترة التي قضتها مصر دون مكان يجمع فنون الأوبرا، عقب حريق دار الأوبرا الخديوية 1971، إلى أن قدّمت الحكومة اليابانية منحة لتشييد دار الأوبرا في شكلها وموقعها الجديدَين، وافتتاحها عام 1988 للمرة الثانية، عقب افتتاحها للمرة الأولى في عهد الخديوي إسماعيل.

كانت فنون الأوبرا غريبة على المشهد في القاهرة، ليس فقط على مستوى العامة، لكن على مستوى النخبة أيضاً

حضر الحفل، الذي أقيم في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 1988، الرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك، ورافقه في الحفل الأمير توموهيتو أوف ميكاسا، الشقيق الأصغر لإمبراطور اليابان.
ولم تكن اليابان ممثلة في التمثيل الدبلوماسي، أو حتى مشاركتها في تشييد المبنى الثقافي العريق، بل شاركت في تقديم حفل الافتتاح من خلال عرض "الكابوكي"، الذي كان يضمّ عدداً كبيراً من الفنانين، وكان يضمّ عروضاً موسيقية غنائية وعروضاً أوبرالية.
وأشرفت الدكتورة ماجدة صالح على دار الأوبرا قبل افتتاحها، لكن عند الافتتاح تقلّدت المنصب الدكتورة رتيبة الحفني، ثم تولت دار الأوبرا، بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة الحالية في مصر، لتصبح بذلك ثالث سيدة تتقلد منصب رئيسة دار الأوبرا.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية