داعش أو كيف يأتي شرنا مما هو أبعد؟

داعش أو كيف يأتي شرنا مما هو أبعد؟

داعش أو كيف يأتي شرنا مما هو أبعد؟


15/06/2023

في الساعة الحادية عشر من يوم ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥، وقع هجوم داعشيّ كبير في العاصمة الفرنسيّة، باريس، في ملعب باريس ومسرح باتاكلان مع عدد من المطاعم المحيطة في المنطقة، وهو هجوم غير مسبوق في فظاعته؛ فقد وقع ما يقرب من ١٣٢ قتيلاً وما يصل إلى ٤٠٠ جريح جرّاء الهجوم. إنّها الهجمة الأكثر دمويّة في تاريخ أوروبا منذ تفجيرات قطارات مدريد ٢٠٠٤، الأمر الذي جعل الجمهورية الفرنسية "في حرب مفتوحة مع الإرهاب" -حسب تعبير الرئيس الفرنسي حينها- والحداد لمدّة ثلاثة أيّام.

منذ الهجوم الدمويّ، ومن قبله، كان التفكير دائماً قائماً على أنّ الشرّ/الألم يأتي إلى "الحضارة" من مكان معلوم تماماً، إنّه من الشرق الأوسط، من البيئة الداعشية تحديداً، ولا بدّ من التكاتف العالميّ والكونيّ في مواجهة الإرهاب المفتوح.

المذبحة ليست حدثاً فريداً ينبغي التعامل معه بأنّه يأتي من فراغ؛ بل ناجم عن بنية عالم تهيمن عليه رأسماليّة معولمة

لكن، في كتابه المميّز الذي كان بمثابة محاضرة ألقاها عقب الهجوم بعنوان "شرّنا يأتي مما هو أبعد: التفكير في مذبحة ١٣ نوفمبر"، يقدّم ألان باديو تفكيراً مضادّاً للسائد في مسألة "الإرهاب" الذي يُستعمل في الخطابات السياسيّة والإعلاميّة بكثير من الثقة والوضوح، دون فحص لبُنية العالَم المعاصر. يمكننا القول إنّ باديو يقدّم تحليلاً راديكالياً، يسارياً، في رؤية هذا "الشرّ" الذي يُدعى العالم بأجمعه إلى الاصطفاف معاً ضدّه. بمعنى آخر، هو يحاول أن يُعقلن الهجوم، ويفهم دوافعه، دون شجبه فحسب، ومسايرة الخطاب السياسيّ الدولتيّ والمحافظ في لعن الإرهاب، دون تفحّص مصادره وشروطه المُنتِجة.

اقرأ أيضاً: هل ينتقم أردوغان من أوروبا بورقة داعش؟

بعد قراءة كتاب باديو المهم، رغم صغره، اتّضح لي أنّ التهليل العالميّ ضدّ الإرهاب يقع في كارثة شديدة، وهي كارثة الشجب والإدانة والتعاطي مع الإسلام كدين "متطرف"، دون النظر لسياقات الردْكلة التي أنتجت هذه الذوات. فعند الألم/الشر، لا ينتظر أحدٌ من المحلّل أو عالم الاجتماع أن يشرح ويحلّل ويوضّح دور السياسات (كما يوضّح ذلك السوسيولوجيّ الفرنسيّ إيمانويل تود في كتابه بالغ الذكاء "مَن هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينيّة)، إنّما يريد تعويلاً وإقامة "أحداث" كنصب تذكاريّة تاريخيّة (ولا يعني ذلك الاستخفاف بدماء الذين راحوا ضحايا الهجمات الدّمويّة كما يوضّح باديو).

اقرأ أيضاً: كيف تتجلى صورة الدولة في عقل تنظيم داعش؟

هذه الطريقة في التعاطي مع الهجمات، منذ القاعدة، لها تاريخٌ في واقع الحال. في الواقع، إنّ الغرب، بكثير من التحفّظ الاصطلاحيّ على هذا المصطلح، قادرٌ في كلّ هجمة عليه من قبل ذاتيات ارتكاسيّة، منذ القاعدة وحتى داعش، أن يسم هذه الهجمات بـ"الأحداث". منذ الحادي عشر من سبتمبر، والهجمات ليست مجرّد هجمات. ١١ أيلول "حدث"، بمعنى أنّه انتقل من بُعده السياسيّ، إلى بعد تاريخيّ وتقديسيّ وإشهاريّ عن الألم. شارلي إيبدو "حدث"، هجمات الثالث عشر من نوفمبر بباريس "حدث"، إلخ إلخ.

تستوقف طريقة التعاطي هذه المرءَ، مما أعادني لسؤال  الفيلسوف جاك دريدا الأساسيّ بعد أحداث أيلول: "ماذا حدث في ١١ سبتمبر؟"، وهو ليس سؤالاً استنكارياً، بل سؤال يسائل الطبيعة الحدثيّة المضافة على "الفعل" أو "الهجوم"، والذي يسعى العالم الغربيّ إلى تكريسه كذكرى حدث، قد يتمّ وسمه تاريخياً بأنّه الحدث الأبشع منذ الحرب العالميّة الثانية مثلاً.

اقرأ أيضاً: "قوارير داعش" ... المغرب يفتح ذراعيه لضحايا البغدادي

الحدث دائماً يفترض القداسة، والخضوع، والشعور الحتميّ بالألم. إن لم تتألّم -بمعنى علمانيّ- فأنت متواطئ ضمناً مع "الإرهاب العالميّ" -الذي هو مرموز فارغ المعنى. الحدث يُفرض على الجميع "التضامن"، الانكسار لمشهد الحضارة وهي تتهدّم من "أشرار" سنكرّس العالم كله للتخلّص منهم، حتى ولو دمّرنا العالم في سبيل ذلك.

لذا، فإنّ المنظور الراديكاليّ الذي يقدّمه باديو في كتابه "شرنا يأتي مما هو أبعد" يفكّك ويقلق هذه الطمأنينة تجاه الإرهاب، والثقة الغربيّة بالذات مع نسيان تامّ لتدخّلها المستمرّ في كافّة أنحاء المعمورة وتدميرها، وإفقارها. أو، كما يقول باديو: "وأود، من وجهة النظر هذه، أن أظهر قلقي من الأشياء التي تم الترحيب بها على أنّها بدهيات؛ مثلاً: تصريح أوباما؛ لا يبدو فيه شيء، فمفاده القول: إنّ هذه الجريمة المربعة ليست جريمة فحسب ضد فرنسا أو ضد باريس، وإنما أيضاً ضد الإنسانية، وهذا قول جيد وعادل للغاية. لكن الرئيس أوباما لا يصرّح على هذا النحو في كل مرة يحدث فيها قتل جماعيّ من هذا القبيل، لا يفعل ذلك حينما تجري الأمور في أماكن أبعد، في عراق أصبح مستعصياً على الفهم، أو في باكستان يحفها ضباب الغموض، وفي نيجيريا متعصبة، أو في كونغو قلب الظلمات. من هنا إذاً، يتضمن التصريح فكرة تبدو بينة، تذهب إلى أنّ الإنسانية الضحية تتواجد على الأرجح في فرنسا، ودون شك في الولايات المتحدة أيضاً، أكثر منها في نيجيريا أو الهند أو العراق أو باكستان أو الكونغو. يسعى أوباما في الواقع إلى تذكيرنا أنّ الإنسانية بالنسبة له تبدو جلية للعيان في غربنا الخيّر" (ص 37).

بنية العالم المعاصر وانتصار العولمة

ينطلق طرح باديو في الكتاب من حجاج أساسيّ جداً، يمكن اختصاره كالتالي: هناك بنية للعالَم المعاصر الذي نعيش فيه، هذه البنية لها مرتكزات ثلاثة هي: ١) انتصار الرأسماليّة المعولمة؛ ٢) إضعاف الدول؛ ٣) الممارسات الإمبرياليّة الجديدة. أمّا مؤثّرات هذه المرتكزات فتتمثّل في: ١) مؤثرات على الساكنة؛ ٢) إنتاج ذوات ارتكاسيّة؛ ٣) هيمنة فاشية معاصرة. بهذه المرتكزات، وبفهم مخرجاتها، يركّز في الأخير على هويّة القتلة، قتلة الثالث عشر من نوفمبر.

بالنسبة إلى ألان باديو، فإنّ بنية العالم المعاصر تتمثّل في ظَفر الرأسماليّة المعولمة التي عملت على نشر ثقافة السوق والفرد الحرّ داخل هذه السوق، مصاحباً بإضعاف للدول وتهتيك لمقدرتها على التحكّم في الأسواق، وهي بالتالي عرضة دائماً للزعزعة الاقتصاديّة والفقر والاقتراض من صندوق البنك الدوليّ (أكبر منظمة إمبرياليّة في الكون). أدى هذا الانتصار المظفر للرأسماليّة المعولمة إلى خصخصة كلّ شيء، وتبديد قوى المقاومة، وتبديد ثروات العالم.

اقرأ أيضاً: منتديات داعش: أكاديمية ضخمة لتعليم الإرهاب

إنّ الرأسماليّة لم تنتصر فحسب على مستوى الهيمنة على العالم، بل أيضاً في فكرة تدميرها لأيّ بديل حقيقيّ. صحيح أنّ البديل، كما يشير باديو، كان متمثلاً في الشيوعيّة التي هي من الهوان حالياً بمكان، إلّا أنّ "الهدف المبتغى من أنصار الرأسماليّة ليس بأيّ حال مسألة أخلاقيّة، بل الاجتثاث النهائيّ لفكرة البديل" (ص ٥٠). وبالتالي، فإنّ الرأسماليّة المعولمة أنتجت عالماً أحاديّ القطب -بتعبير باديو- خاضعاً لسلطة مركزيّة واحدة.

وإذا كانت الرأسماليّة المعولمة والحال كما عرضنا، فإنّ الدول ليست سوى أداة أو مدراء "محليين" لهذه البنية العالميّة؛ تمارس الهيمنة نفسها بثوب محلّي (من فاشيّة وديكتاتوريّة واستبداد)، وهي نقطة على صلة وثقى بما دعاه باديو بالممارسات الإمبرياليّة الجديدة؛ حيث انتهى الشكل الكلاسيكيّ من الهيمنة، وأصبحت سلطة رأس المال المعولم تخلق "تحييزاً" (ص ٥٥) للدول، بمعنى أنّها تنشئ دولاً تحت-دوليّة، هي مستقلّة ولها حيّز ومكان وشعب، ولكنها انعكاس لبنية هيمنيّة أوسع.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره داعش الصوفية ويفجر أضرحتهم؟

"لدينا إذن"، يقول باديو، "أولغارشيّة تتشكّل من ١٠٪ ثم هناك كتلة فقيرة تقارب نصف الساكنة العالميّة، أفريقيّة وآسيويّة في غالبيّتها العظمى..." (ص ٥٨).

صعود ذوات فاشية ارتكاسيّة

وفقاً لباديو، فإنّ هذه البنية المعاصرة للعالم أنتجت أصنافاً ثلاثاً من الذوات: الذات الغربيّة، والذات الراغبة في الغرب (والذاتيتان الأوليان نوعيتان)، والذات العدميّة. الذات الغربيّة ببساطة هي تلك الذات الأوليغارشيّة المتمتّعة برأس المال؛ أما الذات الراغبة في الغرب فهي ما تمثّله الطبقة الوسطى العالميّة التي "غدت ترفاً ما عادت الرأسماليّة قادرة على دفع ثمنه" بعبارة ممتازة لجون جراي؛ أما الذات العدميّة فهي الذات الناقمة، والتدميريّة، والراغبة في الانتقام، والتي تتخذ شكلاً ميثولوجياً في الارتكاس إلى التراث، أو إلى دين معيّن لتبرير نفسها من خلاله، لكنّها وهي تنتقم فهي مسكونة، في الآن نفسه، بشبح ما تحاربه (الرغبة في الغرب).

اقرأ أيضاً: هل تستعين إيران بداعش لإفشال ثورة العراقيين؟!

وبالتالي، فبالنسبة إلى باديو، الذات القاتلة الذابحة هي ذات ارتكاسيّة، لا يمكن بحال ردّها إلى معتقد دينيّ أنتجها في لحظة صفر واقعية. فالحال، كما يقول أوليفي روا، أنّ مشكلة هؤلاء ليست في الإسلام قطعاً كما يروج الخطاب الإعلاميّ والسياسيّ السائد. تكمن المشكلة تحديداً في "الردْكلة" وسياقاتها التي هيأتها الرأسماليّة المعاصرة؛ بحيث إنّ المقاتلين هم يقومون بأسلمة للراديكاليّة، وليس بردكلة الإسلام. إنّهم، حسب باديو، شباب فاشيّون بالمعنى السابق الذي أنتجته الرأسماليّة. لكن لا يمكن الحديث عن "برابرة" يخرّبون الحضارة، فتلك ممّا يسميه باديو بـ"الغطرسة الغربيّة" (ص٧٩).

يحاول  باديو عقلنة الهجوم وفهم دوافعه، دون شجبه ومسايرة الخطاب السياسيّ في لعن الإرهاب، ودون تفحّص مصادره وشروطه المُنتِجة

وخلاصة القول، إنّ ما يمكن لدرس باديو أن يقدّمه لنا في التفكير في مثل هذه الجرائم، هو أنّ المذبحة ليست حدثاً فريداً ينبغي التعامل معه بأنّه يأتي من فراغ؛ بل هو ناجم عن بنية عالم تهيمن عليه رأسماليّة معولمة دمرت حروباً وأنتجت ذواتاً عدميّة مسلبة من أيّ حق، مع ضعضعة لطبقة وسطى عالميّة، دون أيّ بديل لشباب يعاني من بطالة عن العمل، ومن تمييز أحياناً، وقصف لبلادهم أحياناً أخرى، مع التمسك في الوقت ذاته بفكرة الغرب كفكرة تدميريّة للآخرين، في الساكنة. إنّه كتاب جذريّ، وجريء في لحظة يُوجب فيها عليك الخطاب الرسميّ والإعلام السياسيّ أن تتعامى عن كلّ شيء، وتقف في صفّ الدولة، التي تقتل وتمارس النهب والسّلب، ولا تسائل الشرط العنيف المنتج لهذه العدميّة الراديكاليّة المتخذة لبوساً دينيّاً.

وبالتالي، حسب عبارة باديو المستوحاة من شكسبير، الشر يأتي مما هو أبعد من الهجوم، هناك بنية للعالم المعاصر علينا فهمها، لندرك كيف يأتي الشر والألم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية